الجمعة، 26 أكتوبر 2018

فوضى

لا أعلم عن شخص تتزاحم في صدره المشاعر فتحوله إلى فوضى من الأحاسيس كالمغترب سواءً كان مبتعثاً أو غير ذلك. لا تكاد تمر نسمةُ هواء إلا وتحرك بداخله عواصف من المشاعر لا تهدأ. سمعت مرةً عما يسمى بـ "Butterfly Effect" وهو مصطلح تأثير الفراشة ويعني بأن رفرفة جناح فراشة في أقصى أطراف أمريكا قد تسبب عواصف وفيضانات في أقصى شرق آسيا! ويسمى أيضاً بـنظرية الفوضى ونظرية فوضى الكون ونظرية الشواشية ونظرية الديمنو "الضومنة" وأيضاً بتأثير كرة الثلج. ويعني ذلك كله بأن أحداث صغيرة جداً كـ "نسمة الهواء" تلك قد ينجم عنها نتائج وتأثيرات كبيرة جداً لا يمكن تصورها.

الغربة شعور غريب وإحساس غير محسوس يصعب التعبير عنه، بل وحتى يستحيل وصفه وتعريفه، ومن ادعى فهمه دون تجربته فهو بلا شك قد أخطأ، من يظن بأنه يستطيع أن يصفه أو يعرّفه فخطؤه أعظم بكل تأكيد. فلو قلت لمغتربٍ "كيف حالك" لاضطرب وخانه التعبير، وقد تسبب هذه الكلمة أعاصير وفيضانات وفوضى من المشاعر والأحاسيس ما قد يدمر الكون لو كان ملموساً قبل أن يرد عليك روتينياً بأنه "بخير"، فما بالك بإنسان قال عنه علي كرّم الله وجهه: أتـــزعــم أنــك جــرم صغـيــر، وفيــك انطوى العـالـــم الأكـــبر. لذا فالمغترب يأنس بقراءة وسماع قصص المكافحين ومن يشبهونه في بعض تفاصيل حياته كي يخفف ذلك من معاناته قليلاً ويساعده أيضاً في اكتشاف أغوار عالمه الأكبر. لكنه لا يقف عندها كثيراً، فجل المغتربين يزعمون بأن لا قصة تشبه قصصهم ولا معاناة أكثر من معاناتهم. قد يكون ذلك فيه جزء من الحقيقة لكنه ليس بحقيقة مطلقة.

في فوضى تلك المشاعر وزحامها، وقعت ذات مرة على قصة حدثت قبل قرون. لطفلٍ توفي أباه وهو في شهره الأول في بطن أمه، وولد بعد وفاة أبيه في بيئةٍ صحراوية جافة فقيرة، تنعدم فيها أدنى مقومات الحياة في ذلك الوقت. تكاد تمر عليهم الأيام تلو الأيام وهم لم يأكلوا طعاماً قط. ناهيك عن وحشية الصحراء وجفافها وقلة الأمطار وشدة الحر وحرارة الشمس إلى غير ذلك. ما إن ولدته أمه إلا وذهب لظروفٍ معينة لينتقل لعائلة أخرى فيمكث عندها قرابة السنتين ليعود مرةً أخرى لأمه. وحينما بلغ من العمر ست سنوات، قررت الأم أن تسافر لتزور قبر أبيه الذي يبعد عنهم قرابة ١٥ يوماً مشياً على الأقدام.

وصلا بعد أيام وأرته أمه قبر أبيه، ولك أن تتخيل أي مشاعر كانت تلك لطفل يتيم في بلد غريب لم يبلغ السادسة وهو يقف على قبر أبيه بعد رحلة سفر مهلكة! وبعد زياتهم لقبرِ أبيه، مكثوا عند أقاربٍ لهم عدة أيام ثم قرروا العودة لموطنهم. وهم في الطريق بعد قرابة ٣ أيام من المشي. تعبت الأم وسقطت أرضاً وأقبلت على الموت ثم رفعت يديها كي تحضن ذلك الابن، لكن يداه سقطت قبل أن تحتضن ابنها وفارقت الحياة! كان في صحبتهم امرأة، فقالت للطفل ساعدني كي أحفر قبر أمك ونحملها وندفنها فيه. ففعل وهو يبكي ونظره شاخصاً فيها والمرأة تحاول أن تصرف وجه هذا الطفل عن أمه الميتة. وحينما قبراها وعزما على الرحيل، كان يشيرُ على قبرها ويقول أمي! أمي! أمي! نعم أمه وكيف سيذهب بدونها. أي يتمٍ هذا وأي ألم هو ذلك. أي غربة بلا ونيس ولا قريب وما كمية المشاعر والآلام التي يحمله قلب ذلك الطفل!

لم أسمع بقصة يُتمٍ فيها من الألم ومن الغربة كهذه من قبل، ولن أسمع بعدها! لذلك حينما كنت أمر ببعض الآلام والعقبات أتعاظمها في نفسي لكنها أصبحت تتصاغر بعد سماع هذه القصة ولا زلت أسترجعها كلما تعاظمتُ معضلة أو مررت بألم. ليس هذا فحسب، فالقصة لم تنتهِ بعد، بل هي مجرد بداية. لك أن تتخيل أن ذلك الطفل هو أعظم إنسان عرفه التاريخ، ذلك الطفل هو قدوة البشرية ونبراسها وسراجها ونورها. ذلك الطفل هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قد تعود لبداية المقال وتقرؤه من جديد، ليس فقط لما أحتوى، بل لأنه كُتب بطريقة غير متسقة وغير منظمة تشابه فوضى مشاعر كاتبها. لكن أرجوك استحضر مع قراءته كل ما أنهكك وأدمع عينيك وأثنى عزيمتك فلعلك تعيد النظر في أشياء كثيرة، فتهدأ نفسك وتطمأن روحك ويسكن قلبك وتلتأم جراحك.