الأحد، 30 مايو 2021

إضاءاتُ كهف

في شمال أرض العجائب كما يسمونها - ولاية جزيرة تاسمانيا - زرت أحد أشهر الكهوف السياحية في الولاية وهو كهف "ماراكوپا - Marakopa". وماراكوپا كلمة من لغة السكان الأصليين للولاية وتعنى وسيم. حيث يدهشك هذا الكهف بوسامته الفريدة حينما تنصت لأصوات خرير ماء النهر الذي يتدفق بأعماقه ولا يرمش لك جفن حينما تشاهد حيوانات *خلد الماء أو ما يسمى باللغة الإنجليزية "بلاتيبس - platypus" تسبح به قاطعةً رحلةً طويلة من مكان إلى آخر مروراً بهذا الكهف. ولا تكاد تغلق عينيك حتى يبهرك جمال تلك البلورات المتلألئة الساقطة من سقف الكهف والنابتة من الأرض والتي تشكلت على مدى آلاف السنين، حيث يحتاج تكوّن سنتيميتراً واحداً من أعمدة هذه البلورات إلى قرابة مئة سنة! ثم يتفرق نظرك بعشوائية لا إرادية إلى الأحواض المائية العاكسة لكل زوايا الكهف الغير منتظمة. ليشتد انبهارك بعد عناء طويل وأنت تشاهد تلك الأضواء المتوهجة تنير أسقف الكهف، فتشعر بالعظمة والهدوء في أعماق هذا الكهف، كيف لا وأنت تعايش هذه المخلوقات المهددة بالانقراض من جماد وحيوان. وتستشعر هذه العظمة من كثرة توصيات المرشدين السياحيين وحراس الكهف من الانتباه لخطواتنا وعدم استخدام الإضاءات وحزمة من التوصيات الأخرى كي لا يحطم البشر ذلك الجمال البكر!


أخذنا المرشد السياحي يتنقل بنا من نقطة لأخرى ويشرح لنا عن جمال هذا الكهف وأسراره إلى أن وصل بنا إلى مكان تلك الأضواء المتوهجة والتي هي يرقات مضيئة وتسمى بسراج الليل "Glowworm" ويطلق عليها علمياً "Bioluminescent larvae". أشار لنا إلى مكانها لكننا لم نرها جميعاً بعد عدة محاولات يائسة. لجأ لمحاولة أخرى حيث أطفأ جميع أنوار الكهف الخافتة لنتمكن من رؤية هذه المخلوقات العجيبة وهي تتوهج لكننا فشلنا مرة أخرى في رؤيتها. أشار لنا المرشد بأن ننتظر برهةً من الزمن حتى تتمكن أعيننا من التأقلم على ظلمة الكهف فتتخلص من أثر ضوضاء الإضاءات والأنوار الساطعة التي تتعرض لها أعيننا باستمرار في حياتنا الطبيعية.


وبعد فترة من الهدوء والظلام لمحت أعيننا أولى هذه المخلوقات ثم تلتها الباقية واحدة تلو الأخرى، حتى بدا لنا سقف الكهف كسماءٍ سوداء صافية مرصعةٍ بالنجوم المتوهجة، لكن الفرق الوحيد هنا أننا بالقرب منها. والعجيب بأن تلك الثواني المعدودة من الظلام الدامس والصمت الساكن سرت بنا إلى أعماق مضيئة بالتساؤلات وهدوء صاخب بالتفكر رغم أننا بوسط النهار لكنها ظلمة الكهف وأعماق النفس. ثم عرجنا بعد ذلك إلى هذه النجوم الساطعة في أسقف الكهف رغم قربها، نلامسها بأمواج خيالاتنا المتدفقة بلا انتهاء. ثم قطع المرشد السياحي هذه اللحظات التي كانت بأشبه ما بين اليقظة والنوم وذلك بإعادة إضاءة مصابيح الكهف وليته لم يفعل! لكن بعدما أعاد المرشد تلك الإضاءات ظللنا نشاهد هذه اليرقات المتوهجة كما كان يشاهدها هو قبل حينما لم نستطع نحن! وهنا لم احتمل كمية الأسئلة التي تأخذني من إجابة إلى أخرى وكل الاحتمالات صحيحة! أين كان ذلك الجمال غائباً؟ لماذا لم نتمكن من مشاهدته؟ وهل اختار التواري عن أنظار الدخلاء وتلألأ فقط لصاحبه المرشد السياحي؟


كانت كل تلك المشاهد عظيمة بالنسبة لي لكن التساؤلات أعظم، لذا تشاركت كل جوارحي في استشعارها وانغمست من عمق ذلك الكهف أغوص إلى عمق نفسي. أوليس لكل واحدٍ منا كهفه الخاص المملوء بالعجائبِ والأسرار الفريدة التي لا شبيه لها؟ لكنها عصيةٌ على استكشافها مالم نبذل لها الغالي والنفيس، صعبة المراس مالم نستأنسها ونروضها، مهددة بالانقراض ما لم نعاملها بلطف. تتحسس من كل دخيل يلج إليها كي لا يحطم ما بها من نفائس تكونت على مدى أوقات طويلة من الزمن وتجارب عميقة في الحياة، لكنها هشة إذا ما فتح الكهف على مصراعيه وسُمح للدخلاء بالعبث به!


هل نشعر بالوحدة والوحشة في كهوف أنفسنا والتي تبدو لنا من الوهلة الأولى خالية مظلمة، لكنها مليئة بالكنوز والعجائب والأسرار العصيةً على الوصول لها بسهولة لذا تأبى أن تظهر لنا محاسنها وجمالها من أول زيارة وذلك عقاباً لنا على تأخرنا وإشارةً إلى طول انتظارها لنا وانشغالنا بغيرها، فليس كعزة نفسها شيء! النفس عصية على من أراد سبر أغوارها والغوص في أعماقها ناهيك عن تهذيبها فهي متوحشة رغم تفردها. نحن مسجونون بدواخل أجسادنا ذات القدرات المحدودة في الحركة نتألم، نتعب، ننام، نكسل لكن ما إن سبحنا في أعماق أنفسنا وعرجنا إلى سماءات التفكر حتى نتحرر من كل القيود ونغدو كالطيور التي لا حدود لتحليقها ولا تحكمها مسافات!



*حيوان خُلد الماء من أغرب الحيوانات الموجودة على وجه الأرض حيث احتار العلماء في تصنيفه. فهو يبيض كالطيور ويَدُرُّ الحليب كالثديات ويرضع من جلده، له منقار بط، وفراء كثيف كفرو الثعلب، وذيلاً يجدف به كذيل السنجاب ويعيش بأستراليا وخصوصاً ولاية تاسمانيا.

الأحد، 23 مايو 2021

تخمة

أُدرك تماماً مدى إدماننا لشبكات التواصل الاجتماعي، وأننا نحن وهواتفنا توائم سيامية لا يمكن أن ننفصل عن بعضنا إلا بعمليات معقدة لها تبعاتها وتضحياتها وشيء من الخطورة. قُبيل رمضان الذي صادف بداية فيروس كورونا المستجد عام ٢٠٢٠م، قررت التوقف عن استخدام جميع شبكات التواصل الاجتماعي لمدة شهر رمضان كاملاً، لكن لظروف خارجة عن إرادتي ولارتباطي بمجموعات عملية ومهنية خصوصاً أن شبكات التواصل الاجتماعي ازدهرت في تلك السنة اضطررت لتأجيل هذا القرار إلى وقت غير معلوم. والجدير بالذكر أنه بتلك السنة زاد مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي ٥٩٠ مليون مستخدم جديد بالعالم ومنهم ٢.١ مليون مستخدم جديد لشبكات التواصل الاجتماعي بالسعودية.

 

كنت بين الفينة والأخرى أقوم بهذا الصيام عن شبكات التواصل الاجتماعي في عملية تنظيف وتطهير دورية، فأحياناً تكون ٢٤ ساعة في الأسبوع أو الشهر وأحياناً تصل إلى خمسة أيام أسبوعياً، لكن بعد هذا الصيام أعود بشراهة أكثر من ذي قبل! لذا قبل رمضان الفائت ٢٠٢١م، وبعد أن تحررت من عدة التزامات وأعمال، توقفت تماماً عن جميع شبكات التواصل الاجتماعي ماعدا اليوتيوب لمتابعة بعض البرامج وملخصات الأخبار حيث يصعب علينا متابعتها هنا لظروف الغربة ولا يوجد أي وسيلة أخرى.

 

بدأت هذا التحدي وزاد من صعوبته حينما لم أقم بإلغاء حساباتي في شبكات التواصل الاجتماعي ولم أقم أيضاً بحذف تطبيقاتها من على هاتفي، مع العلم بأنني قد ألغيت الإشعارات منذ سنوات. من السهل جداً أن تتوقف عن فعل شيء بعد التخلص منه لكن الأصعب أن يكون أمامك وتتوقف عن فعله. واستلهمت هذا التحدي من فكرة صيامنا لرمضان، لذا حاولت أن تكون التجربة بهذا الشهر الفضيل. كانت الأيام الأولى صعبة حيث كنت أفتح هذه التطبيقات لا شعورياً، لكن سرعان ما أتذكر وأقوم بإغلاقها قبل أن تفتح.

 

بعد مرور شهر كامل وإنجازي لهذا التحدي، استمر التحدي قرابة عشرة أيام إضافية، ولولا التزاماتي لما عدت لها. ذلك لأن الإيجابيات التي حصلت عليها فاقت توقعاتي وتغلبت على كل سلبيات البعد عن شبكات التواصل الاجتماعي. فالراحة النفسية والهدوء والتركيز والإنجاز والاستمتاع بتفاصيل الحياة والانسجام في المحيط القريب من عائلة زملاء وأصدقاء كانت نعماً تجاهلناها بمحض إرادتنا، فأصبحنا متصلين بكل ما هو بعيد عنا منفصلين عن كل ما هو قريب منا. تجدنا نجلس مع والدينا وإخواننا وأبنائنا وأصدقائنا لكننا نتواصل مع أشخاص يبعدون عنا مئات إن لم تكن آلاف الأميال. حضورنا في واقعنا جسدي فقط وحضورنا على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي افتراضي، حتى أصبنا بانفصام في تواصلنا وتفاعلنا، فزادت كمية ومدة التواصل وعدد من نتواصل معهم وانخفضت جودة ذلك التواصل والذي يعد حاجة ماسة في حياة الإنسان إلى أدنى مستوياته. فلم يعد لتواصلنا طعم ولا لون بقدر ما هو كثير ومستمر وفوق حاجتنا.

 

لا يمكن إنكار ثورة شبكات التواصل الاجتماعي وتأثيرها الكبير والممتد على كل مجال من مجالات الحياة من تأثير سياسي واقتصادي وفكري.. إلخ. فإذا غيرت شبكات التواصل الاجتماعي دول وسياسات وأطاحت برؤساء وزعماء، فكيف بتأثيرها على المستخدم البسيط وعلى عاداته، وأسلوب تفكيره، وصحته النفسية، والجسدية. ندرك جميعاً حجم هذه التأثيرات ونلوم أنفسنا كثيراً على هذا الإسراف الغير مبرر لكننا نادراً ما نقوم بخطوات عملية فنستسلم ونرضخ للأمر الواقع نضيف ملحاً على جروحنا بكثرة الندم على عدم القيام بذلك. كما أن هذه الشركات العملاقة لشبكات التواصل الاجتماعي لا تترك محفزاً ولا وسيلة جذب إلا واستخدمتها لكي تبقي مستخدميها على هذه الشبكات لأكثر وقت ممكن. كيف لا يكون ذلك والمستخدم هو المنتج الأساسي لهذه الشركات والتي تتاجر به ويضخ لها الملايين في كل دقيقة!

 

لذا تسببت لنا شبكات التواصل الاجتماعي بتخمة معلوماتية تشعرنا بجوع معرفي يزيد من سطحية تفكيرنا. تلهينا هذه الشبكات بالإغراء المعرفي الزائف، ويكفينا فقط مراجعات ما في المحفوظات والمفضلات على هذه الشبكات من روابط ومقالات ومحاضرات وغيرها وجدناها بشبكات التواصل الاجتماعي ووعدنا أنفسنا بالعودة لها والاستفادة منها وتخصيص وقت لها، لكنه إغراء معرفي زائف وعذر وهمي لاستمرارنا في استخدام هذه الشبكات إلا لمن جاهد نفسه وتحكم في وقته!