الأحد، 19 أغسطس 2018

يا صديقي

كثيراً ما تسود النقاشات الفكرية والدينية والعلمية على لقاءات واجتماعات المغتربين وخصوصاً المبتعثين. سواءً كانت في بلد الغربة أو في أرض الوطن. وذلك يعود لعدة أسباب، لعل أهمها اختلاف مشاربهم الفكرية وتعدد ثقافاتهم، وأيضاً ما يتعرضون له من خبرات ومواقف متعددة في بلد الغربة. في نقاشٍ ديني مع صديق لي، أُكن له كل التقدير والاحترام، قلت رأيي بكل عفوية في موضوع يحتمل احتمالات كثيرة ولم أصدر فتوىً دينيةً ولا حكماً فقهياً فيه. فأزبد وأرعد وجحظت عيناه واحمرّت ورفع سبابته في وجهي قائلاً لي بصوت عال وأسلوب فض وبوجه عبوس: راجع عقيدتك يا هذا ! فصعقت لما قال !!! وتوقفت عن الموضوع وعن الحديث تماماً.

ياصديقي، إن أخطأت فالصواب كما قال الله عز وجل "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". وإن أصبت أنا وجهلت أنت فالأصل "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". وإن كان كلانا على غير علم، فلا داعي لكل هذا، فالصمت والتريث والتبين أنجع الحلول. فقد قال : "يا أبا ذرٍّ، ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فو الذي نفس محمد بيده، ما عمل الخلائق بمثلهما" رواه البزار.

‏جهلك ياصديقي بفتوى معينة أو رأي مختلف لا يعني بأنك على حق وغيرك على باطل. حسن الظن ياصديقي والتريث في إطلاق التهم والأحكام يساعدك على فهم الآخر وتقبله. هيئتك يا صديقي وشكلك وكثرة عبادتك ليست حصانة لك بأنك لا تخطيء ولا شهادة لك بأنك تعلم كل شيء. ولتعلم يا صديقي بأن الدين كامل والمتدين ناقص! الدين أكبر وأرقى وأسما مني ومنك يا صديقي! الدين هو كل جميل راقي يسمو بالإنسانية إلى أعلى مراتب الحياة وقمة ذلك الأخلاق. لذا كان أسما هدف للرسول ﷺ هو "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فكل جزاء عظيم ومكافأة عالية أعدها الله للعبد سواءً في الدنيا أو الآخرة مرتبطة ارتباطاً عظيماً بحسن الخلق والتعاملات اليومية مع الإنسان أياً كانت صفته. ألم تسمع قوله : "أنا زعيم... وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" رواه أبو داود. الدين يا صديقي أخلاق سلوكية وعبادات تعاملية لا أحكام فقهية وعبادات شعائرية فقط. الإسلام أعمق وأبعد من مجرد أحكام فقهية فقط. الإسلام دين سلام وأسلوب حياة ورقي فكر وكمال أخلاق، ويفسد ذلك كله تقديس الأشخاص والآراء وتعطيل الفكر وإقصاء الآخر!

مسكين من يظن بأن الدين شكلاً قط، وتجده بئيس بغيظ، فض الأسلوب سلطوي الرأي أحادي الفكر. مسكين من يظن بأن الدين ملك له وحده ولأصحابه فقط، هو الأفضل والأكمل والأجمل والمتحدث الوحيد باسم الدين. مسكين من يظن بأن الدين من دونه لا شيء! يظن بأنه هو المنقذ البطل. يحاسب الجميع، يقاضي الجميع ويرمي بالأحكام هنا وهناك. مسكين من يصنف الآخرين ويجعلهم في قوالب وأحزاب معينة بهواه، الناس وتدينهم لله يا صديقي. أرقى منتج يمكن التسويق له هو الدين، وأسوأ طريقة يمكن التسويق بها هي الإكراه والتهديد والإقصاء والتشديد. فبقدر حكمة المسوّق تكمن فاعلية المستفيد!
  
وإليك ولي هذه الأحاديث يا صديقي والتي تغيب عنّا كثيراً: قال : "إنّ من خياركم أحاسنكم أخلاقا" رواه مسلم. وقال أيضاً : "ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء" رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال : "أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا" رواه الحاكم. وقال : "إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا" رواه الترمذي. وقال : "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار" رواه أبو داود. وقال : "حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" رواه أحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي : "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم" رواه الترمذي. وهو بذلك ﷺ أعظم قدوة في حسن الخلق فقد قال عنه الله عز وجل في كتابه الكريم "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ".



الأحد، 5 أغسطس 2018

حقيقة

أكبر ما يحول بين الإنسان وبين الحقيقة هو تقديس الرموز والشخصيات التي هي أدوات فقط لنقل جزء من الحقيقة ونشرها أياً كانت هذه الحقيقة. والأدوات هي وسيلة لنقل تلك الغاية "الحقيقة" وقد يعتريها ما يعتريها من تلف وسوء استخدام وإهمال إلى آخره! ‏لذا دائماً ابحث عن الحقيقة أينما وجدت ونوّع في استخدام الأدوات ولا تُقدسها، لأنها حتماً ستتغير أو تبلى يوماً ما على نقيض الحقيقة. ‏ومن العجيب أن هذه الأدوات قد تُهاجم وتُتّهم بما فيها وما ليس فيها سواءً بقصد أو بغير قصد وذلك لعدم قبول الحقيقة أو لتكابرٍ عليها أو لجهل. فتضرب الأدوات وتحارب ويتم التركيز عليها وبينما المقصود الحقيقة، لكنها لم تُهاجم ولم تحارب لأنها أكبر من الناقد والناقل ومستحيلة الهزيمة، وهنا يخدع المتلقي!!!

وهناك مثال على إحدى هذه الحقائق وأهمها وهي "الدين" وهذي الحقيقة تمس كل شرائح المجتمع باختلاف تفكيرهم بطريقة أو أخرى. ففي مجتمع من يطلقون على أنفسهم رجال الدين - مع أنني أرى أن من الخطأ أن نقول فلان رجل دين أو أن أحدهم يمثّل الدين وهذا خطأ أكبر أيضاً، فالأصح أن نقول فلان يعكس تدينه. لأن الدين كامل والمتدين ناقص! فلا كامل إلا وجه الله عز وجل ومن عصم - حينما يخطئ أحدهم فعلى الفور وبدون علم وبحث يتم تبرير الخطأ والتستر على صاحبه وأقصد هنا خطأ ظهر علناً وصاحبه بمكان القدوة. فتُسقط الأحاديث والأدلة إما لتبرير هذا الخطأ أو لتحصين صاحبه وجعله مقدساً والحديث عنه محرماً كدماء العلماء مسمومة وغيرها الكثير والكثير من هذه الإسقاطات التي كثيراً ما تكون في غير محلها وبغير استنادٍ علمي ولا دليل شرعي. مع أن الأولى لكل من سمع عن خطأ هذا الشخص أن يلتمس له عذراً ويحسن ظناً ولا يصدر حكماً بحقه سواءً كان نفياً أو إثباتاً إلى أن تتضح الأمور وتتجلى. فالقدسية لهؤلاء الأشخاص تولّد التبعية ومن التبعية يتم التلقين. ومن هنا تنعدم أدنى مقومات النقد والتحليل لدى المتلقي "المُلّقن" ولما يدور حوله، فيصبح "أعزل فكرياً". ومن يتربى على التلقين فقط يسهل "افتراسه فكرياً".

وعلى النقيض، نجدُ من لا يتطرق للدين أبداً بشكل مباشر بل يدور حول حماه ولا يترك شخصيةً أو رمزاً دينياً سواءً من الأحياء كان أومن الأموات إلا وتعرض له بطريقةٍ هزلية مرتكزاً على أدلةً دينية وعلمية متناقضة لكنها تدعم موقفه بحجة قوية بطريقة جزئية تنطلي على كثير من الناس إذا ما لم تُبحث وتُحلّلّ، وكثيراً ما نجدهم الآن في شبكات التواصل الاجتماعي. لذا يحال أن يكون نشاط هؤلاء الأشخاص بهذه الطريقة نشاطاً فردياً، فكمية المقاطع والصور والأدلة التي يجمعونها لا يستطيع أن يقوم بها شخصاً بمفرده أياً كان، ناهيك عن تحليلها ودراستها. بالإضافة إلى طريقتهم الهزلية والإستحقارية لمصطلحات دينية بحتة وإسقاطها على أشخاص وأسماء معينة بطريقة خبيثة وماكرة وبرمزية للخروج عن أي مسائلات قانونية. وإذا قلنا جدلا أننا أمام أشخاص لديهم هذه القدرات ويستطيعون القيام بهذه المهام الأربع في آن واحد، فإننا أمام أشخاص عباقرة جداً وهذا محال ويتبين من خلال اللقاء بهم والحديث معه وجها لوجه إذا ظهروا، أو في عدم ظهورهم نهائياً بأسمائهم الشخصية فهم يقبعون تحت معرفات وحسابات وهمية! فهل هم مجرد أبواق وسعاة فتنة؟!