الأحد، 28 مارس 2021

شهوة كلام

بإحدى مساءات لندن الربيعية، دعا سعد وهو أحد الأطباء الذين ابتعثوا للزمالة الطبية صديقه همام الذي يدرس الدكتوراه بإحدى التخصصات الإنسانية إلى لقاءٍ ودي بإحدى الحدائق اللندنية لاحتساء القهوة والشاي على أصوات تغاريد العصافير ونسائم الربيع اللطيفة وذكريات الوطن الجميلة. وصل الصديقان لمكان اللقاء وأمامهم مجموعة مبتعثين آخرين لا يعرفهم همام حيث يلتقي بهم لأول مرة. دار الحديث العفوي الذي تسوده ذكريات الوطن وطموحات أبنائه، وانساب الحديث من قصة لأخرى لا يوقفه شيء كنبع الماء المتدفق الصافي، ينساب يمنةً ويسرةً لكنه لا يحيدُ عن المتعة والأنس ممزوجاً بالمودة واللطف.


في خضم الحديث، اشتكى أحدهم من ألمٍ في ظهره يكابده لعدة أيام. ما إن فرغ من شكواه حتى انبرى له صاحبنا همام بكمٍ من النصائح الطبية والعلاجات الشعبية وكله حماس وشغف لما يحمله من دواء عاجل لداء هذا المسكين. عم الصمت على الجميع واسترسل صاحبنا في الوصف حيث وجد راحةً بعدم مقاطعته وانفرد بالحديث لا تقاطعه إلا تلك النظرات التي تُزيد من نشاطه مُستشعراً إعجابهم به وبما يقدم.


شكره صاحبنا ودارت الأحاديث تنتقل من موضوع إلى آخر متجاوزين كل الحدود المكانية والزمانية يسبحون في فضاءات الأحلام وحُقَّ لهم. ما كاد ينتهي ذلك اللقاء إلا لينمو لعلم صاحبنا همام أن كل من في الجلسة والذين يفوق عددهم على سبعة أشخاص يدرسون الزمالة الطبية في تخصصات مختلفة. ما إن عرف صاحبنا ذلك الخبر إلا وتغيرت جلسته واضطرب حاله واحمرّ وجهه. وعلى الرغم من أن اللقاء كان على وشك الانتهاء إلا أن تلك الدقائق المعدودة المتبقية أصبحت أياماً طوالاً بنظر همام، وتضخمت دقات الثواني وأصبحت كأصوات طبول الحرب داخل قلبه. كل ما يريده همام الآن هو أن يغادر هذا اللقاء بأسرع وقت ممكن، وتمنى كل الأماني أن لم يصحبه سعد معه في سيارته بل تمنى أن لم يأتي أصلاً لهذا اللقاء.


على الرغم من معرفة همام العلمية واطلاعه الواسع وخبراته البحثية إلا أنه أدرك ذلك لاحقاً أنه لم يتجاوز ذوي التخصص وحسب بل تحدث فيما لا يعرف! هو يعلم بأن اللقاء لم يكن مؤتمراً طبياً أو محاضرة أكاديمية ليتحرى فيها معايير تحديد المشكلة والوصول لنتيجة والتوصية بالعلاج أخيراً. بل كان لقاءً ودياً يتكلم فيه الجميع بأريحية وودية بالتفاعل مع بعضهم ومشاركة خبراتهم. كان تفاعل همام مع الشاكي طبيعيا كتفاعل أكثرنا النابع من حب المساعدة والتعاطف مع الغير، وكانت ردة فعل الأطباء طبيعية بعدم إحراج همام بل حتى في عدم مناقشة العلاج إن كان صحيحاً أو غير ذلك أدباً ولطفاً منهم رغم ذلك الخطأ.


تذكرت هذه القصة المحرجة بعدما قرأت قبل أيام تغريدة قاسية لمعالي وزير الصحة عن قصة مؤلمة لشخص كان لديه موعد لوالده للحصول على لقاح فايروس كورونا المستجد لكنه رفضه بسبب الشائعات ليتوفى بعدها بسبب الفيروس، وعلق الكثير في تويتر على هذه القصة بقصص مشابهة لأقاربهم. فبين جهل الشائعات واستمراء ناشريها وبين سكوت المتخصصين وقلة تفاعلهم تتكرر مثل هذه القصص وكم هي موجعة، فلا يوجد ألم كألم الفقد والأكثر ألماً إذا عرفنا أن أسباب هذا الألم - بعد قدر الله عز وجل - هو مجرد أحاديث وشائعات يُستأنس بها في المجالس الواقعية والإفتراضية. الأمراض والحالات الطبية تحتاج لكشف أولي وفحص سريري وتحاليل متعددة وأشعة مختلفة واستشاريين وإخصائيين قبل الوصول إلى تحديد المرض ثم الوصل لنتيجة أسباب هذا المرض وأخيراً وصف العلاج. وكذلك الحال فيما يحدث الآن مع فيروس كورونا وما صاحبه من إشاعات ومؤامرات مزعومة وعلاجات شعبية ونصائح طبية من غير متخصصين بالإضافة إلى التحذيرات من عدم أخذ اللقاحات وقد ساعدت شبكات التواصل الاجتماعي في نشر هذه الإشاعات المتزايدة.


قد قيل بأن كل ما في الإنسان إلى ضعف إلا شهوة الكلام فهي في زيادة. فهل شهوة الكلام تجعلنا نتحدث فيما نعرف ومالا نعرف فقط لمجرد المشاركة؟ وهل تقودنا هذه الشهوة إلى خلق الشائعات والمساهمة بنشرها؟ وهل ساعدت طبيعة التقنية الحالية بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي في تأصيل هذه العادة السيئة بدلاً من نشر الوعي؟ وهل استسهلنا نقل الشائعات بمجرد النسخ واللصق دون التأكد من المصادر الرسمية؟ وهل استشعرنا أن هذه العادة قد تقتل الكثير من الأبرياء دون أن نعلم وتسبب الألم للكثير وقد لا نسلم؟