الأحد، 29 مارس 2020

أجساد جوّالة

على مدار العامين الماضيين وفي مدينتنا الصغيرة بأصغر ولايات أستراليا، الولاية الأكثر عزلةً وجمالاً وسحراً، ألفت أكثر الأوجه سواءً في أفنية الجامعة أو قرب المدارس أو بالمحال التجارية ووسط المدينة. طبيعة الناس هنا أكثر ودٍ من غيرهم خصوصاً في بريطانيا حيث كانت تجربتي السابقة التي أمضيت فيها أكثر من ثلاث سنوات. يخيم علي أوجه الناس في بريطانيا التجهم ويسود التحفظ والتحرز على معظم العلاقات والتعاملات وتسوء حينما تكون مع أجنبي في أكثر الأحيان. لا شيء مميز ضمن هذه الأوجه التي ألفت رؤيتها في مدينتنا إلا سيدة استرعت انتباهي بإبتسامتها الدائمة وتلطفها العفوي الغير مصطنع وهدوئها اللافت. ويوم بعد الآخر تزداد تميزاً بين كل الأوجه المحيطة بها لتصبح علامة فارقة كشمسٍ مشرقة غيّبت كل ما حولها من النجوم والأنوار الصناعية.

علمت يقيناً أن خلف هذه الإبتسامة وخلف هذه الشخصية قصة مميزة جعلتها تطغى على كل من حولها. ترددت كثيراً في سؤالها عن سر هذه الإبتسامة وعن هذا التوهج المثير للأسئلة. وكيف لي أن أسألها دون أن أثير ريبةً أو شكاً لكنني جزمت أخيراً وسألتها. للأسف لم أصل لإجابة مقنعة بل هي أصلاً لم تلاحظ شيئاً مميزاً في حياتها غير ازدحام جدولها وكثرة انشغالها وقد استغربت من سؤالي هذا. مضت الأيام وتوطدت العلاقة وأصررت على الوصول إلى إجابةٍ مقنعة لتساؤلي. وذات مرة وبشكل عفوي كنا نتناقش عن شبكات التواصل الإجتماعي وعن كثرة استخدامها وقوة تأثيرها، وكانت المفاجأة! هذه السيدة لا تملك أي حساب في شبكات التواصل الاجتماعي نهائياً ولا تستخدم هذه الشبكات أبداً إلا حساباً واحداً على الفيس بوك خاص بالمكان الذي تعمل به، حيث تقوم بنشر بعض الإعلانات والدعايات وتتواصل مع العملاء فقط. هنا ازداد تساؤلي عن سر العلاقة بين عدم استخدام شبكات التواصل الإجتماعي وبين الراحة النفسية والهدوء، لا أجزم بأن العلاقة هنا علاقة سببية لكنها علاقة ارتباطية لا اعتباطية بلا شك.

هذه القصة شجعتني على إطالة عادة أقوم بها بين فترة وأخرى حيث أتوقف عن استخدام الجوال نهائياً ما عدا المكالمات الهاتفية لمدة ٢٤ ساعة. أعيد فيها ترتيب أولوياتي وتنظيم أوقاتي، وقد تحدثت عن هذه العادة في مقالة سابقة بعنوان: طمأنينة مبتعث [١]. لذلك قررت الأحد الماضي الموافق ٢٠٢٠/٣/٢٢م التوقف عن شبكات التواصل الإجتماعي لمدة أطول. فكانت من مساء الأحد إلى يوم الجمعة ٢٠٢٠/٣/٢٧م، أي قرابة خمسة أيام. كانت تجربة جميلة عجيبة. شعرت خلالها بفقدي لشيء كبير ترك فراغاً أكبر لمن يكن لدي سابقاً. أحسست بغرابة العزلة مع نفسي كغرابة اللحظات الأولى مع شخص لم التقِ به من قبل. لم أتوقف عن التقاط الجوال عدة مرات بدون سبب لتفقد شبكات التواصل الإجتماعي لكن عندما أتذكّر التحدي أتوقف. ثم ما ألبث قليلاً حتي تدفعني شراهة الإدمان لفتح الجوال لكنني أقاوم يوماً بعد يوم إلى أن وصل بي الأمر في اليوم قبل الأخير أن غادرت المنزل ناسياً أخذ هاتفي ولم أفتقده إلا متأخراً. وهذا على غير العادة، حيث كنت لا أخرج قبل أن آخذه معي. شعرت هذه الأيام بتركيز عالِ واستحضار أفضل، كان لدي وقت أكثر من ذي قبل وتبعه بالتالي إنجاز أكثر أيضاً. زاد لدي أيضاً الشعور بالرضى النفسي وغشيني هدوء وطمأنينة وسكينة لم أشعر بها منذ زمن، وهذا بدوره ولّد نشاطاً أكثر.

تسيطر شبكات التواصل الإجتماعي بإختلافها على حياتنا بشكل كبير. لا يكاد يفتح أحدنا إحدى عينيه إلا ويتفقد بالأخرى هاتفه. تصحبنا هواتفنا في في كل مكان، حتى إلى دورات المياه أحياناً أجلكم الله. لم نعد نستطيع التركيز على عملٍ واحد إلا وتشاركنا هواتفنا فيه. بل تشاركنا هواتفنا في كل شيء، كل شيء. حتي في القرارات التي نتخذها وفي المعلومات التي نستسقيها وفي الأماكن التي نذهب لها وفي نوع الطعام الذي نأكله وأكثر من ذلك بكثير سواءً كان ذلك بوعينا أو بغير وعينا! في آخر الإحصاءات وأحدثها لهذا العام ٢٠٢٠م عن استخدام التقنية في المملكة العربية السعودية فهناك أكثر من ٣٢.٢٣ مليون مستخدم للإنترنت من إجمالي عدد السكان البالغ ٣٤.٥٤ أي ما يعادل ٩٣٪ بزيادة ١٥٪ عن العام الماضي ٢٠١٩م. بينما يشكل مستخدمو شبكات التواصل الإجتماعي ٧٢٪ من سكان المملكة العربية السعودية بواقع ٢٥ مليون مستخدم نشط بزيادة ٨.٧٪ عن العام الماضي أيضاً ٢٠١٩م وبمعدل أكثر من ثلاث ساعات يومياً [٢]. أي أن الجميع يستخدمها وبشكل يومي إذا ما استثني الأطفال، واستبعد ذلك ما عدا الرضع! وفي إحصائية أخرى للهيئة العامة للإحصاء أن ٩٧.٣٤٪ من استخدام الإنترنت لمن هم فوق الخمسة عشر سنة مركزاً على استخدام شبكات التواصل الإجتماعي [٣]. دعك من هذه الإحصائيات وتفقد جوالك. ستصدم من عدد الساعات اليومية التي تقضيها على الجوال بما فيها شبكات التواصل الإجتماعي. إذا كنت مستخدماً للآيفون فاذهب إلى: الإعدادات - البطارية وانظر إلى استخدامك للأربعة والعشرين الساعة الماضية ولآخر ١٠ أيام. وهناك أظن طريقة مشابهة على الأجهزة الأخرى. شاهدت أرقام مخيفة لبعض الأصدقاء تصل لـ ١٠ ساعات يومياً على الجوال. أحدهم كان استخدامه للسناب شات فقط لآخر ١٠ أيام يفوق على ٥٠ ساعة، يعني أكثر من يومين متواصلة على برنامج واحد فقط غير البرامج الأخرى!

هذه الأزمة التي يمر بها العالم أجمع هي محنة يجب أن نحولها إلى منحة في شتى المجالات ونستفيد منها بقدر أكبر في معرفة مدى أهمية الهواتف الذكية وشبكات التواصل الإجتماعي في حياتنا وكيف نسخرها لنا وهل هي من ضمن أولوياتنا. لا شك أن لشبكات التواصل الاجتماعي فوائداً عظيمة وعديدة لا نحصيها، وكذلك سلبياتها. لذا فهي سلاح ذو حدين يلزمنا التعامل معه بحذر ويجب أن نقود نحن عملية استخدامه بحكمة وهدوء، ففي شبكات التواصل الإجتماعي لا خيار لنا غير أن نستخدمها أو تستخدمنا. نعم، تستخدمنا هي حينما تقتحم أوقاتنا ولقاءاتنا بل تزاحم أولوياتنا في الحياة من الالتزامات العائلية والعمل والعلاقات الإجتماعية إلى أماكن العبادة وقاعات الدراسة وأوقات الراحة. بل تتعدى إلى أكثر من ذلك بكثير لتحدث ضرراً على الصحة البدنية والنفسية والفكرية. فهل يحولنا الإفراط في استخدام "الجوالات" الذكية إلى أجساد جوّالة "غبية”؟!


[١] طمأنينة مبتعث:

[٢] We Are Social, & Hootsuite:
We Are Social, & Hootsuite. (2020). Digital 2020: Saudi Arabia. Retrieved from https://datareportal.com/reports/digital-2020-saudi-arabia


[٣] الهيئة العامة للإحصاء - المملكة العربية السعودية:
General Authority for Statistics. (2019). Bulletin of Individuals and Households’ ICT Access and Usage Survey. Retrieved from https://www.stats.gov.sa/en/952