الأحد، 20 يونيو 2021

فارس

كنت أسمع كثيراً عن مدينة ملبورن قبل زيارتي لأستراليا وبعد وصولي لها أيضاً. ومدينة ملبورن دائماً ما تكون في مصاف المدن عالمياً من حيث سمعة الأمان والخدمات وتعدد الثقافات ومن حيث ملاءمتها للسكن والمعيشة أيضاً، خصوصاً للطلبة. ودائماً ما يتبادر لذهن الكثيرين أنها عاصمة أستراليا، وتتقاسم هذا الخطأ الشائع مع مدينة سيدني أيضاً. بينما عاصمة البلاد الرسمية هي مدينة كانبرا!


كانت أول زيارة لي لمدينة ملبورن في شهر جولاي من عام ٢٠١٩م، وتركت لدي هذي الزيارة انطباعاً جيداً بهدوئها وترتيبها وذلك على عكس ما رأيت في مدينة سيدني المكتظة بالمباني والسكان والمشبعة بنمط حياتها غير المنتظم، حيث تغلب العشوائية عليها كما بدت لي. لكنني وجدت مدينة ملبورن أكثر ترتيباً وتنظيماً ويغلب على ساكنيها الهدوء بينما تشعر بأن سكان مدينة سيدني في ماراثون يومي ولا وقت لديهم للتوقف أو الحديث. وقد أعزو هذه المشكلة لأسباب كغلاء المعيشة وازدحام المدينة وكثرة الالتزامات.

 

بعد عدة أيام بهذه المدينة الجميلة، كنت في ضيافة الصديق العزيز عصام والذي أخذنا مشكوراً في جولة على المدينة واستضافنا في أحد مطاعم منطقة الدوكلاندز الشهيرة ببناياتها الشاهقة وممراتها الجميلة ومطاعمها المتعددة ومقاهيها المتنوعة من غربية وشرقية. وبعد فراغنا من تناول الطعام، قمنا بالتجول على ضفاف نهر "يارا" الذي يصب في خليج بورت فيليب. وبعد جولتنا القصيرة توقفنا في إحدى تلك المقاهي لاحتساء الشاي. فتح لنا الباب نادلٌ مبتسما مبتهج قائلاً: "مرحباً ألف، تفضلوا". فقابلناه بابتسامات مندهشة ونظرات متعجبة! وبعد ما انتهينا وعزمنا على الخروج ذهبنا لدفع المبلغ وإذ بالمحاسبة تخبرنا بأن ذلك النادل قد تكفل بالمبلغ، فذهبنا له وأصر على عدم دفع أي شيء بعد جدال طويل. تقبلناها منه وشكرناه وأبدينا إعجابنا وسعادتنا بما يقوم به. هذا النادل هو طالب سعودي يدعى فارس ولم يتجاوز العشرين من عمره، يدرس بمرحلة اللغة ويعمل بالمساء لتطوير لغته ولإشغال وقته بما يفيده.

 

استذكرت بعد هذه الواقعة عدة قصص مشابهة ومشرفة لزملاء كثر، وآخرها لصديقي سلطان في بريطانيا حيث كان يدرس بمرحلة الدكتوراة ويعمل في توصيل الطلبات للمطاعم بالمساء، وذلك لمساعدة والده بالسعودية لسداد ديونه. ولا يكاد ينام إلا سويعات من ليل مع انخراطه بأعمال تطوعية وخيرية كثيرة. وهناك الكثير مثل هذه الأمثلة المشرفة كفارس وسلطان. وهذه التجارب تسر من يراها وتؤثر فيه إيجاباً، فكيف بأصحاب التجارب أنفسهم! فالاحتكاك بالمجتمع في بلد الابتعاث والدخول معهم في تفاصيل حياتهم اليومية سواءً من خلال العمل التطوعي أو من خلال مثل هذه الوظائف هو أمر في غاية الأهمية ومن الضرورة بمكان وذلك لفوائده الجمّة؛ لا من حيث تطوير اللغة واكتساب معلومات ومهارات جديدة ولا من حيث بناء علاقات اجتماعية ومهنية وليس أخيراً المردود المادي الجيد. فالاكتفاء بالشهادة العلمية فقط هو طموح قاصر وهدف لا يحقق الغاية العظمى للابتعاث من جلب تجارب وخبرات ومهارات تنهض بالمجتمع والوطن.

الأحد، 30 مايو 2021

إضاءاتُ كهف

في شمال أرض العجائب كما يسمونها - ولاية جزيرة تاسمانيا - زرت أحد أشهر الكهوف السياحية في الولاية وهو كهف "ماراكوپا - Marakopa". وماراكوپا كلمة من لغة السكان الأصليين للولاية وتعنى وسيم. حيث يدهشك هذا الكهف بوسامته الفريدة حينما تنصت لأصوات خرير ماء النهر الذي يتدفق بأعماقه ولا يرمش لك جفن حينما تشاهد حيوانات *خلد الماء أو ما يسمى باللغة الإنجليزية "بلاتيبس - platypus" تسبح به قاطعةً رحلةً طويلة من مكان إلى آخر مروراً بهذا الكهف. ولا تكاد تغلق عينيك حتى يبهرك جمال تلك البلورات المتلألئة الساقطة من سقف الكهف والنابتة من الأرض والتي تشكلت على مدى آلاف السنين، حيث يحتاج تكوّن سنتيميتراً واحداً من أعمدة هذه البلورات إلى قرابة مئة سنة! ثم يتفرق نظرك بعشوائية لا إرادية إلى الأحواض المائية العاكسة لكل زوايا الكهف الغير منتظمة. ليشتد انبهارك بعد عناء طويل وأنت تشاهد تلك الأضواء المتوهجة تنير أسقف الكهف، فتشعر بالعظمة والهدوء في أعماق هذا الكهف، كيف لا وأنت تعايش هذه المخلوقات المهددة بالانقراض من جماد وحيوان. وتستشعر هذه العظمة من كثرة توصيات المرشدين السياحيين وحراس الكهف من الانتباه لخطواتنا وعدم استخدام الإضاءات وحزمة من التوصيات الأخرى كي لا يحطم البشر ذلك الجمال البكر!


أخذنا المرشد السياحي يتنقل بنا من نقطة لأخرى ويشرح لنا عن جمال هذا الكهف وأسراره إلى أن وصل بنا إلى مكان تلك الأضواء المتوهجة والتي هي يرقات مضيئة وتسمى بسراج الليل "Glowworm" ويطلق عليها علمياً "Bioluminescent larvae". أشار لنا إلى مكانها لكننا لم نرها جميعاً بعد عدة محاولات يائسة. لجأ لمحاولة أخرى حيث أطفأ جميع أنوار الكهف الخافتة لنتمكن من رؤية هذه المخلوقات العجيبة وهي تتوهج لكننا فشلنا مرة أخرى في رؤيتها. أشار لنا المرشد بأن ننتظر برهةً من الزمن حتى تتمكن أعيننا من التأقلم على ظلمة الكهف فتتخلص من أثر ضوضاء الإضاءات والأنوار الساطعة التي تتعرض لها أعيننا باستمرار في حياتنا الطبيعية.


وبعد فترة من الهدوء والظلام لمحت أعيننا أولى هذه المخلوقات ثم تلتها الباقية واحدة تلو الأخرى، حتى بدا لنا سقف الكهف كسماءٍ سوداء صافية مرصعةٍ بالنجوم المتوهجة، لكن الفرق الوحيد هنا أننا بالقرب منها. والعجيب بأن تلك الثواني المعدودة من الظلام الدامس والصمت الساكن سرت بنا إلى أعماق مضيئة بالتساؤلات وهدوء صاخب بالتفكر رغم أننا بوسط النهار لكنها ظلمة الكهف وأعماق النفس. ثم عرجنا بعد ذلك إلى هذه النجوم الساطعة في أسقف الكهف رغم قربها، نلامسها بأمواج خيالاتنا المتدفقة بلا انتهاء. ثم قطع المرشد السياحي هذه اللحظات التي كانت بأشبه ما بين اليقظة والنوم وذلك بإعادة إضاءة مصابيح الكهف وليته لم يفعل! لكن بعدما أعاد المرشد تلك الإضاءات ظللنا نشاهد هذه اليرقات المتوهجة كما كان يشاهدها هو قبل حينما لم نستطع نحن! وهنا لم احتمل كمية الأسئلة التي تأخذني من إجابة إلى أخرى وكل الاحتمالات صحيحة! أين كان ذلك الجمال غائباً؟ لماذا لم نتمكن من مشاهدته؟ وهل اختار التواري عن أنظار الدخلاء وتلألأ فقط لصاحبه المرشد السياحي؟


كانت كل تلك المشاهد عظيمة بالنسبة لي لكن التساؤلات أعظم، لذا تشاركت كل جوارحي في استشعارها وانغمست من عمق ذلك الكهف أغوص إلى عمق نفسي. أوليس لكل واحدٍ منا كهفه الخاص المملوء بالعجائبِ والأسرار الفريدة التي لا شبيه لها؟ لكنها عصيةٌ على استكشافها مالم نبذل لها الغالي والنفيس، صعبة المراس مالم نستأنسها ونروضها، مهددة بالانقراض ما لم نعاملها بلطف. تتحسس من كل دخيل يلج إليها كي لا يحطم ما بها من نفائس تكونت على مدى أوقات طويلة من الزمن وتجارب عميقة في الحياة، لكنها هشة إذا ما فتح الكهف على مصراعيه وسُمح للدخلاء بالعبث به!


هل نشعر بالوحدة والوحشة في كهوف أنفسنا والتي تبدو لنا من الوهلة الأولى خالية مظلمة، لكنها مليئة بالكنوز والعجائب والأسرار العصيةً على الوصول لها بسهولة لذا تأبى أن تظهر لنا محاسنها وجمالها من أول زيارة وذلك عقاباً لنا على تأخرنا وإشارةً إلى طول انتظارها لنا وانشغالنا بغيرها، فليس كعزة نفسها شيء! النفس عصية على من أراد سبر أغوارها والغوص في أعماقها ناهيك عن تهذيبها فهي متوحشة رغم تفردها. نحن مسجونون بدواخل أجسادنا ذات القدرات المحدودة في الحركة نتألم، نتعب، ننام، نكسل لكن ما إن سبحنا في أعماق أنفسنا وعرجنا إلى سماءات التفكر حتى نتحرر من كل القيود ونغدو كالطيور التي لا حدود لتحليقها ولا تحكمها مسافات!



*حيوان خُلد الماء من أغرب الحيوانات الموجودة على وجه الأرض حيث احتار العلماء في تصنيفه. فهو يبيض كالطيور ويَدُرُّ الحليب كالثديات ويرضع من جلده، له منقار بط، وفراء كثيف كفرو الثعلب، وذيلاً يجدف به كذيل السنجاب ويعيش بأستراليا وخصوصاً ولاية تاسمانيا.

الأحد، 23 مايو 2021

تخمة

أُدرك تماماً مدى إدماننا لشبكات التواصل الاجتماعي، وأننا نحن وهواتفنا توائم سيامية لا يمكن أن ننفصل عن بعضنا إلا بعمليات معقدة لها تبعاتها وتضحياتها وشيء من الخطورة. قُبيل رمضان الذي صادف بداية فيروس كورونا المستجد عام ٢٠٢٠م، قررت التوقف عن استخدام جميع شبكات التواصل الاجتماعي لمدة شهر رمضان كاملاً، لكن لظروف خارجة عن إرادتي ولارتباطي بمجموعات عملية ومهنية خصوصاً أن شبكات التواصل الاجتماعي ازدهرت في تلك السنة اضطررت لتأجيل هذا القرار إلى وقت غير معلوم. والجدير بالذكر أنه بتلك السنة زاد مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي ٥٩٠ مليون مستخدم جديد بالعالم ومنهم ٢.١ مليون مستخدم جديد لشبكات التواصل الاجتماعي بالسعودية.

 

كنت بين الفينة والأخرى أقوم بهذا الصيام عن شبكات التواصل الاجتماعي في عملية تنظيف وتطهير دورية، فأحياناً تكون ٢٤ ساعة في الأسبوع أو الشهر وأحياناً تصل إلى خمسة أيام أسبوعياً، لكن بعد هذا الصيام أعود بشراهة أكثر من ذي قبل! لذا قبل رمضان الفائت ٢٠٢١م، وبعد أن تحررت من عدة التزامات وأعمال، توقفت تماماً عن جميع شبكات التواصل الاجتماعي ماعدا اليوتيوب لمتابعة بعض البرامج وملخصات الأخبار حيث يصعب علينا متابعتها هنا لظروف الغربة ولا يوجد أي وسيلة أخرى.

 

بدأت هذا التحدي وزاد من صعوبته حينما لم أقم بإلغاء حساباتي في شبكات التواصل الاجتماعي ولم أقم أيضاً بحذف تطبيقاتها من على هاتفي، مع العلم بأنني قد ألغيت الإشعارات منذ سنوات. من السهل جداً أن تتوقف عن فعل شيء بعد التخلص منه لكن الأصعب أن يكون أمامك وتتوقف عن فعله. واستلهمت هذا التحدي من فكرة صيامنا لرمضان، لذا حاولت أن تكون التجربة بهذا الشهر الفضيل. كانت الأيام الأولى صعبة حيث كنت أفتح هذه التطبيقات لا شعورياً، لكن سرعان ما أتذكر وأقوم بإغلاقها قبل أن تفتح.

 

بعد مرور شهر كامل وإنجازي لهذا التحدي، استمر التحدي قرابة عشرة أيام إضافية، ولولا التزاماتي لما عدت لها. ذلك لأن الإيجابيات التي حصلت عليها فاقت توقعاتي وتغلبت على كل سلبيات البعد عن شبكات التواصل الاجتماعي. فالراحة النفسية والهدوء والتركيز والإنجاز والاستمتاع بتفاصيل الحياة والانسجام في المحيط القريب من عائلة زملاء وأصدقاء كانت نعماً تجاهلناها بمحض إرادتنا، فأصبحنا متصلين بكل ما هو بعيد عنا منفصلين عن كل ما هو قريب منا. تجدنا نجلس مع والدينا وإخواننا وأبنائنا وأصدقائنا لكننا نتواصل مع أشخاص يبعدون عنا مئات إن لم تكن آلاف الأميال. حضورنا في واقعنا جسدي فقط وحضورنا على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي افتراضي، حتى أصبنا بانفصام في تواصلنا وتفاعلنا، فزادت كمية ومدة التواصل وعدد من نتواصل معهم وانخفضت جودة ذلك التواصل والذي يعد حاجة ماسة في حياة الإنسان إلى أدنى مستوياته. فلم يعد لتواصلنا طعم ولا لون بقدر ما هو كثير ومستمر وفوق حاجتنا.

 

لا يمكن إنكار ثورة شبكات التواصل الاجتماعي وتأثيرها الكبير والممتد على كل مجال من مجالات الحياة من تأثير سياسي واقتصادي وفكري.. إلخ. فإذا غيرت شبكات التواصل الاجتماعي دول وسياسات وأطاحت برؤساء وزعماء، فكيف بتأثيرها على المستخدم البسيط وعلى عاداته، وأسلوب تفكيره، وصحته النفسية، والجسدية. ندرك جميعاً حجم هذه التأثيرات ونلوم أنفسنا كثيراً على هذا الإسراف الغير مبرر لكننا نادراً ما نقوم بخطوات عملية فنستسلم ونرضخ للأمر الواقع نضيف ملحاً على جروحنا بكثرة الندم على عدم القيام بذلك. كما أن هذه الشركات العملاقة لشبكات التواصل الاجتماعي لا تترك محفزاً ولا وسيلة جذب إلا واستخدمتها لكي تبقي مستخدميها على هذه الشبكات لأكثر وقت ممكن. كيف لا يكون ذلك والمستخدم هو المنتج الأساسي لهذه الشركات والتي تتاجر به ويضخ لها الملايين في كل دقيقة!

 

لذا تسببت لنا شبكات التواصل الاجتماعي بتخمة معلوماتية تشعرنا بجوع معرفي يزيد من سطحية تفكيرنا. تلهينا هذه الشبكات بالإغراء المعرفي الزائف، ويكفينا فقط مراجعات ما في المحفوظات والمفضلات على هذه الشبكات من روابط ومقالات ومحاضرات وغيرها وجدناها بشبكات التواصل الاجتماعي ووعدنا أنفسنا بالعودة لها والاستفادة منها وتخصيص وقت لها، لكنه إغراء معرفي زائف وعذر وهمي لاستمرارنا في استخدام هذه الشبكات إلا لمن جاهد نفسه وتحكم في وقته!

الأحد، 28 مارس 2021

شهوة كلام

بإحدى مساءات لندن الربيعية، دعا سعد وهو أحد الأطباء الذين ابتعثوا للزمالة الطبية صديقه همام الذي يدرس الدكتوراه بإحدى التخصصات الإنسانية إلى لقاءٍ ودي بإحدى الحدائق اللندنية لاحتساء القهوة والشاي على أصوات تغاريد العصافير ونسائم الربيع اللطيفة وذكريات الوطن الجميلة. وصل الصديقان لمكان اللقاء وأمامهم مجموعة مبتعثين آخرين لا يعرفهم همام حيث يلتقي بهم لأول مرة. دار الحديث العفوي الذي تسوده ذكريات الوطن وطموحات أبنائه، وانساب الحديث من قصة لأخرى لا يوقفه شيء كنبع الماء المتدفق الصافي، ينساب يمنةً ويسرةً لكنه لا يحيدُ عن المتعة والأنس ممزوجاً بالمودة واللطف.


في خضم الحديث، اشتكى أحدهم من ألمٍ في ظهره يكابده لعدة أيام. ما إن فرغ من شكواه حتى انبرى له صاحبنا همام بكمٍ من النصائح الطبية والعلاجات الشعبية وكله حماس وشغف لما يحمله من دواء عاجل لداء هذا المسكين. عم الصمت على الجميع واسترسل صاحبنا في الوصف حيث وجد راحةً بعدم مقاطعته وانفرد بالحديث لا تقاطعه إلا تلك النظرات التي تُزيد من نشاطه مُستشعراً إعجابهم به وبما يقدم.


شكره صاحبنا ودارت الأحاديث تنتقل من موضوع إلى آخر متجاوزين كل الحدود المكانية والزمانية يسبحون في فضاءات الأحلام وحُقَّ لهم. ما كاد ينتهي ذلك اللقاء إلا لينمو لعلم صاحبنا همام أن كل من في الجلسة والذين يفوق عددهم على سبعة أشخاص يدرسون الزمالة الطبية في تخصصات مختلفة. ما إن عرف صاحبنا ذلك الخبر إلا وتغيرت جلسته واضطرب حاله واحمرّ وجهه. وعلى الرغم من أن اللقاء كان على وشك الانتهاء إلا أن تلك الدقائق المعدودة المتبقية أصبحت أياماً طوالاً بنظر همام، وتضخمت دقات الثواني وأصبحت كأصوات طبول الحرب داخل قلبه. كل ما يريده همام الآن هو أن يغادر هذا اللقاء بأسرع وقت ممكن، وتمنى كل الأماني أن لم يصحبه سعد معه في سيارته بل تمنى أن لم يأتي أصلاً لهذا اللقاء.


على الرغم من معرفة همام العلمية واطلاعه الواسع وخبراته البحثية إلا أنه أدرك ذلك لاحقاً أنه لم يتجاوز ذوي التخصص وحسب بل تحدث فيما لا يعرف! هو يعلم بأن اللقاء لم يكن مؤتمراً طبياً أو محاضرة أكاديمية ليتحرى فيها معايير تحديد المشكلة والوصول لنتيجة والتوصية بالعلاج أخيراً. بل كان لقاءً ودياً يتكلم فيه الجميع بأريحية وودية بالتفاعل مع بعضهم ومشاركة خبراتهم. كان تفاعل همام مع الشاكي طبيعيا كتفاعل أكثرنا النابع من حب المساعدة والتعاطف مع الغير، وكانت ردة فعل الأطباء طبيعية بعدم إحراج همام بل حتى في عدم مناقشة العلاج إن كان صحيحاً أو غير ذلك أدباً ولطفاً منهم رغم ذلك الخطأ.


تذكرت هذه القصة المحرجة بعدما قرأت قبل أيام تغريدة قاسية لمعالي وزير الصحة عن قصة مؤلمة لشخص كان لديه موعد لوالده للحصول على لقاح فايروس كورونا المستجد لكنه رفضه بسبب الشائعات ليتوفى بعدها بسبب الفيروس، وعلق الكثير في تويتر على هذه القصة بقصص مشابهة لأقاربهم. فبين جهل الشائعات واستمراء ناشريها وبين سكوت المتخصصين وقلة تفاعلهم تتكرر مثل هذه القصص وكم هي موجعة، فلا يوجد ألم كألم الفقد والأكثر ألماً إذا عرفنا أن أسباب هذا الألم - بعد قدر الله عز وجل - هو مجرد أحاديث وشائعات يُستأنس بها في المجالس الواقعية والإفتراضية. الأمراض والحالات الطبية تحتاج لكشف أولي وفحص سريري وتحاليل متعددة وأشعة مختلفة واستشاريين وإخصائيين قبل الوصول إلى تحديد المرض ثم الوصل لنتيجة أسباب هذا المرض وأخيراً وصف العلاج. وكذلك الحال فيما يحدث الآن مع فيروس كورونا وما صاحبه من إشاعات ومؤامرات مزعومة وعلاجات شعبية ونصائح طبية من غير متخصصين بالإضافة إلى التحذيرات من عدم أخذ اللقاحات وقد ساعدت شبكات التواصل الاجتماعي في نشر هذه الإشاعات المتزايدة.


قد قيل بأن كل ما في الإنسان إلى ضعف إلا شهوة الكلام فهي في زيادة. فهل شهوة الكلام تجعلنا نتحدث فيما نعرف ومالا نعرف فقط لمجرد المشاركة؟ وهل تقودنا هذه الشهوة إلى خلق الشائعات والمساهمة بنشرها؟ وهل ساعدت طبيعة التقنية الحالية بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي في تأصيل هذه العادة السيئة بدلاً من نشر الوعي؟ وهل استسهلنا نقل الشائعات بمجرد النسخ واللصق دون التأكد من المصادر الرسمية؟ وهل استشعرنا أن هذه العادة قد تقتل الكثير من الأبرياء دون أن نعلم وتسبب الألم للكثير وقد لا نسلم؟