الأحد، 12 أبريل 2020

دهشة

دُعيت في ليلة واحدة فقط إلى ثلاث مناسبات على ثلاث "مفطحات". كان ذلك في مانشستر ثالث أكبر مدن بريطانيا حيث يقطنها ذلك الحين أكثر من خمسة آلاف سعودي غير أمثالهم من الأشقّاء الخليجين والإخوة العرب من بين طلبة ورجال أعمال وسيّاح إلى آخره. كانت علاقاتي هناك كثيرة جداً ومتشعبة إلى أبعد الحدود حيث لا أكاد أجد لحظةً واحدة بلا عمل. حضرت تلك المناسبات الثلاث استجابةً لدعوة أصحابها وتقديراً لهم ومكثت عند الأخير للعشاء. لا يهدأ هاتفي من كثرة الاتصالات ولا من سيل الرسائل حتى وصلت إلى مرحلةٍ أحدد فيها وقتاً للرد عليها بشكل شبه يومي. كانت تلك الأيام من أجمل التجارب التي خضتها وكونت من خلالها قاعدة علاقات كبيرة جداً وعميقة حيث جعلتها الغربة كذلك. تعلمت منها الكثير والكثير ومن أخطائي أكثر.

 تبادر لذهني قرابة انتهائي من دراسة درجة الماجستير ألا أعيد تجربة الدكتوراه في نفس المدينة والجامعة إن تيسر لي ذلك. لا لسوءٍ بهما بل لأن الابتعاث فرصة عمر ثمينة ولا أريد تكرار تجاربه في كل مراحله في نفس المكان والبيئة المحيطة به. تمنيت على الأقل ألا تكون الدكتوراه في نفس الجامعة. كما أنني أريد أيضاً أن أجد وقتاً لنفسي ولأوليات أكثر قد أهملتها. تحدثت مع بعض الأصدقاء المقربين عن هذه الفكرة فصعق أكثرهم. أنت، أنت خصوصاً لن تعيش بدون علاقاتك الاجتماعية. لا نصدق أن شخصاً لديه كل هذه العلاقات والتجارب والخبرات في مدينة كمانشستر ولديه بها هذه الفرص الكثيرة يغادر ويترك كل ذلك خلفه. وبالمناسبة، عرض علي في تلك الفترة أكثر من وظيفة وبعض الشراكات في مكاتب وشركات تُعنى بكل ما يخص السائح والزائر والطالب خارج وطنه لكن رفضتها لعدة أسباب لا يسع المجال لذكرها هنا.

حصلت على درجة الماجستير في بداية عام ٢٠١٦م وعدت للسعودية للعمل وكنت أبحث عن قبول دكتوراه خلال تلك الفترة. قبلت في جامعتين في بريطانيا وجامعة في ألمانيا لكنني لم أتمكن من الدراسة في تلك الجامعات لأسباب مختلفة. جاهدت في الحصول على قبولٍ آخر إلى أن يسر الله قبولاً كما أتمنى وزيادة. كان القبول في جامعة تعد ثالث أقدم جامعة في أستراليا ومن أفضل خمسة عشر جامعة فيها. لكن ليس هذا ما جعلني متحمساً لهذا القبول. 

تقع الجامعة في ولاية تسمانيا وهي أصغر ولايات أستراليا الست وهي جزيرة منعزلة عن بقية أستراليا حيث تبعد عن جنوب أستراليا قرابة ٤٠٠ كيلو متر بحراً. ولا أخفيكم سراً بأن جل من يهُم بالذهاب لهذي الولاية والجزيرة يصيبه بعض الإحباط غير تلك الكلمات المثبطة من البعض فور سماعهم باسم هذه الجزيرة. أما أنا فكانت ردة فعلي مختلفة تماماً وإيجابية إلى أبعد الحدود. فهذا ما أبحث عنه في الأصل. فقد قضيت العشر سنوات الأخيرة بين لندن ومانشستر والرياض. حيث الازدحام القاتل والساعات الضائعة يومياً بين وسائل النقل المختلفة من سيارات وقطارات وحافلات، ناهيك عن أوقات الانتظار الطويلة. إضافة إلى ذلك، كثرة العلاقات الاجتماعية والارتباطات اليومية المتعبة أحياناً. لذا لم أتردد يوماً في الذهاب لهذه الجامعة.

وصلت لهذه الولاية الساحرة في شهر أبريل من عام ٢٠١٨م. هذه الولاية التي تمتاز بطبيعتها البكر وتضاريسها المختلفة وهوائها الذي يعد الأنقى على وجه الأرض حيث تشكل أغلبية الجزيرة محميات طبيعية. تهت في سحر طبيعتها ووجدت أن جمالها يكمن في عزلتها. هذه العزلة التي جعلت من أسرارها عجائب تستهوي كل ذي فضولٍ كي يكتشفها، غير أن فضولي يبحث عن عزلةً أخرى تكاد تكون الأعجب والأغرب والأعمق. جمعتنا العزلة وتقاسمنا الصمت وتنفسنا الهدوء أنا وهذه الجزيرة التي لا تشبه أي مكانٍ في العالم بما تحتويه من كائنات ونباتات لا توجد إلا بها، وكذلك هي نفس الإنسان تمتاز بأسرارٍ وعجائب تجعله مختلفاً ومميزاً عن غيره إذا ما غاص في هذه النفس وسبر أعماقها، وهذا ما زاد توافقنا وانسجامنا.

بدأت رحلتي مع العزلة كقصة حب تبدأ بنظرة وجلة يشوبها الارتباك وتنتهي بأسيرٍ لتلك النظرة يبحث عن لذة اللقاء الأول. تغمرني الدهشة عندما أغوص في أغوار هذه النفس وأُسحر بعجائبها التي لا تنتهي. لا أكاد أصل لعمقٍ حتى أهوي إلى أعمق منه. تسبح روحي بين أسرابٍ من العجائب والأفكار والأسرار بتناغُمٍ متناهي الدقة، أليست العزلة مملكة الأفكار كما قيل. أقف مشدوهاً من هذه النفس العجيبة وأسجد لا شعورياً لصانعها في محراب من الدهشة يحفني الصمت البليغ والهدوء الصاخب. لا أزال غائصاُ في هذا العالم الأكبر بعدما كنت أظنه جرماً صغيراً. تكمن أسرار هذا العالم في خطورته. لكنني متفائلاً بأن العزلةَ غالباً لا يعقبها إلا كل خير. فاعتزال النبي محمد صلى الله عليه وسلم عقبه نبوة ورسالة واعتزال موسى ٤٠ يوماً عقبه الألواح التي أنزلت عليه. ولو لم يعقب العزلة إلا التعرف على النفس وتصحيح أخطائها لكفى. فنحن نهرب في أحيانٍ كثيرة من أنفسنا إلى الناس وإلى الأشياء لنشغل أنفسنا عن أنفسنا. تجدنا كثيراً ما نحترف النقد ولا نرى عيوباً إلا في غيرنا، وإذا ما أخطأنا وأغضبتنا تصرفاتنا فإننا نلقي اللوم على كل شيء حولنا إلا على أنفسنا. هذه كلها أعراض الهرب من أنفسنا بينما كان الأجدر بنا أن نهرب إليها. يقول جان بول سارتر: "إذا شعرت بالوحدة مع نفسك فأنت مع رفيق سوء"، لذا فأصلح رفيقك وأحسن صحبته.

ونحن في هذه الأيام وخصوصاً مع جائحة كورونا التي جعلتنا نألف مصطلح العزلة ولم نعشه أحوج ما نكون لخوض غمار هذه التجربة، لكننا نتوجس منها وبل نخشى الحديث عنها. وأعظم ما يمكن أن ننعزل عنه الآن هو هواتفنا وشبكات التواصل الاجتماعي التي تكاد تعمينا بوهج ألوانها الباهتة وتصمّنا بنغمات إشعاراتها المزعجة. ولعل في المقال الأخير المنشور بعنوان أجساد جوّالة ما يغني عن الإسهاب في هذا الموضوع. هذه العزلة عاشها مصطفى محمود - رحمه الله - قسراً في المستشفى وخرج منها شخصاً آخر حتى هدي لهذا القول: "إن الله هو الذي يعرف كيف يربي كل شخص ليظهر أفضل ما عنده، وأن البذرة تحتاج أن تُدفن حتى تنمو، وأن كل شيء أتى لحكمة ستعرفها لاحقاً" فبادر بتربية نفسك بالعزلة وأدفن بذورك في أعماق نفسك ولا تستعجل نموها فلله حكمة في كل شيء، حتى في التأخير!