الأحد، 1 سبتمبر 2019

بوح مهاجر لمغترب !

وصلت مبكراً في إحدى زياراتي الاعتيادية للمستشفى، فذهبت لمقهى المستشفى وجلست على طاولة لحين يأتي الموعد. ما إن جلست إلا وبشخص طاعن في السن يستأذنني في الجلوس معي على نفس الطاولة لازدحام المكان، فرحبت به. بدأ في الحديث بدون مقدمات واسترسل وكأنه يعرفني منذ وقت طويل، بل وكأننا متفقين على أن نلتقي في هذا المكان وهذا الزمان كي نتحدث فقط. أوجز قصة حياته التي تفوق على تسعين عاماً في حديثنا الذي كاد يصل لساعة وكلي آذان صاغية. لخص لي في هذه الساعة تجاربه وقصصه وقدم نصائح تكتب بماء الذهب وما هي إلا نتاج سنوات من الألم والكفاح والفشل والنجاح والفرح والترح.

ما جعلني أرتاح للحديث معه غير كبر سنه واسترساله في الحديث هو حينما قال بأنه هاجر من بريطانيا إلى أستراليا ولم يقل انتقل أو أي كلمة أخرى، فقد كان منصفاً صادقاً. لأنه للأسف بعض الأستراليين يرون بأن لهم الحق في هذه الأرض ولا يرون أنفسهم مستعمرين أو على أقل تقدير مهاجرين. الجدير بالذكر أن تاريخ وجود السكان الأصليين في أستراليا يعود لأكثر من ٦٠ ألف سنة وكانت تقدر أعدادهم بـ ٧٥٠ ألف نسمة وبقرابة ٢٥٠ لغة مختلفة. لكن حينما هاجر الأوروبيون لأستراليا قاموا بمذابح كثيرة ولم يتبقى من السكان الأصليين سواء ٦٠ ألف فقط بعد انتهاء هذه المذابح في عام ١٩٢٠م، وهناك من مات أيضاً بسبب الأمراض خصوصاً تلك التي نقلها المستعمر. كما انقرضت أكثر من نصف لغاتهم ولم يعد لها أي وجود على الرغم من وجود بعض المشاريع الوطنية لإعادة أحياء ما تبقى منها.

يقول ديفيد ذو التسعين عاماً أنه اعتاد على القدوم للمستشفى منذ فترة بعيدة جداً حيث كان يعمل في المستشفى ككبير المهندسين قبل أن يتقاعد في عام ١٩٩٠م تقريباً. وبعد تقاعده أصبح يأتي للمستشفى للمراجعات والفحوصات الطبية برفقة زوجته. فمرةً يأتي لموعده ومرةً يأتي لموعدها ولا يكاد يغيب عن المستشفى. لكنه الآن يأتي بمفرده بعد أن فارقت زوجته الحياة قبل سنة وستة أشهر تقريباً. آلمتني جملة ديفيد حينما قال بكل عفوية بأنه لا يكاد يجد من يتحدث إليه، فجُل من يعرفهم ومن هم بنفس عمره قد توفوا بما فيهم أخوته الأصغر سنناً منه! لكنه الآن يحاول ملئ هذا الفراغ بالاهتمام بمزرعته الصغيرة في فناء بيته الواقع على ضفة نهر مدينتنا. سكت لوهلة ثم أخرج من جيبه هاتفاً ذكياً ملوحاً لي به قائلاً بفرحة بأنه قد اشتراه قبل مدة قصيرة وأنه منبهر بكل ما فيه، ويقول بأنه بدأ يتعلم استخدام التقويم علي هاتفه وذلك لتنظيم مواعيده وزياراته. لكنه متأففاً لما حصل له حينما ذهب لشراء غطاء حامي له قبل مدة، لكنه لم يجده في كل محال الهواتف حيث أخبروه بأن الهاتف قديم ولم تعد المحال تبيع الملحقات الخاصة به. قلت مستغرباً: متي قمت بشرائه؟ فقال: إنه اشتراه قبل سنة ونصف أي بعد وفاة زوجته تقريباً! فلم أعلق واستغربت قوله بأنه اشتراه منذ فترة قريبة!

قال الكثير في هذه الساعة لكن استأذنته في نهاية حديثه في طرح سؤالين عليه فسعد بذلك، وعادةً ما أطرح هذين السؤالين على كل من قابلت من كبار السن. فسألته ما الشيئين التي لاحظت تغيرهما بشكل كبير خلال التسعين سنة الماضية ونحن الآن على نهاية عام ٢٠١٩م. قال وبدون تردد بلغته: "Speed of life" أي سرعة الحياة وهنا فهمت قوله حينما قال بأنه أشترى هاتفه منذ فترة قصيرة لكنه لم يجد له غطاء حامل. فتتنافس الشركات في طرح كل جديد زاد من ثقافة الاستهلاك فأصبح الكثير في سباق مع الزمن لاحقاً خلف شراء كل جديد ومبهر بالإضافة إلى تتدفق الإعلانات التجارية في كل زمان ومكان. أما الآن، فقد يُجدد أحدنا هاتفه الخلوي في كل سنة وأحياناً أقل من ذلك. بينما قديماً كان يُشترى الهاتف أو ما شابهه من الأجهزة ويبقى أحياناً مدى الحياة. وهذا ما أزعج صاحبنا ديفيد وزاد من تسارع الحياة في نظره. أما الشيء الآخر الذي تغير في نظره فقال: "Lack of manners" أي قلة الذوق وانحدار الأخلاق. وأظن الأغلب قد يتفق مع ما قاله على الرغم من تقدمنا علمياً وتقنياً إلا إننا نتأخر أخلاقياً. ولعل أيضاً تسارع الحياة ومطاردتنا للماديات ومواكبتنا لكل جديد والسعي خلف المتع اللحظية أدى إلى هذا التأخر الأخلاقي الذي سهل له أيضاً انتشار الشبكات الاجتماعية والاستخدام المفرط لها. وأدركت ن خلال تطرقه لهذه النقطة أنه يشير إلى عدم تقدير كبار السن والإهتمام بهم وهذا ما أظنه يواجه من خلال اسهابه في الحديث معي.

قلت إذاً ماهي أهم نصيحتين تود تقديمهما لمثلي بعد كل هذه السنوات؟ فقال: لا تطرد خلف المال واعمل ما تحب. والثانية: لا تكره لكن من حقك ألا تحب، لا تكره من أخطأ بحقك لكن لا تسامحه. أعجبني ما قال. فالكره بذرة سامة تؤذي من يستضيفها، وإن سمحت لها فستنمو وتكبر وتنبت غيرها وتثمر شوكاً يؤذيك قبل أن يؤذي غيرك، لكنني لم أتفق معه في ألا تسامح. قلت له أنني ومنذ فترة أحاول أن لا أكره أحد كما قلت ولكنني أيضاً أسعى جاهداً لمسامحة الجميع على الرغم من إيقاني بصعوبة ذلك. قال: لابد أنك تؤمن بدينٍ ما؟! قلت: نعم، أنا مسلم. فتبسم وقال: سأذكر لك قصة حصلتي لي مع أول مسلم قابلته في حياتي وذلك حينما كنت في إنجلترا السنة الماضية. حيث فقدت محفظتي بكل ما فيها من بطاقات ونقود في أحد الباصات واتصل بي من وجدها في الباص حيث كان رقمي على المحفظة. وحينما قابله ديفيد سأله لماذا لم تأخذها فقال له بأنه مسلم وذهب! وهذا ما ترك انطباعاً مذهلاً لدي ديفيد. لذا قد لا تؤثر ألف خطبة في رجل واحد بينما موقف رجل واحد يكون أبلغ من آلاف الخطب والكلمات!

هناك الكثير من الوقفات في هذه القصة والتي من الصعب اختزالها في هذه التدوينة. لكن لنفتش حولنا عمن يحتاج الإهتمام سواءً من كبار السن أو غيرهم. لنقدم كل ما نستطيع، فأحياناً الأهتمام والسؤال أو الحديث فقط هو كل ما يحتاجه شخص ما. زيادة تسارع الحياة وانشغالنا بهواتفنا وبشبكات التواصل الإجتماعي يقتل أثمن اللحظات، بل قد يؤدي إلى موت بطيء لمعنى الحياة الحقيقي.