الأحد، 1 سبتمبر 2019

بوح مهاجر لمغترب !

وصلت مبكراً في إحدى زياراتي الاعتيادية للمستشفى، فذهبت لمقهى المستشفى وجلست على طاولة لحين يأتي الموعد. ما إن جلست إلا وبشخص طاعن في السن يستأذنني في الجلوس معي على نفس الطاولة لازدحام المكان، فرحبت به. بدأ في الحديث بدون مقدمات واسترسل وكأنه يعرفني منذ وقت طويل، بل وكأننا متفقين على أن نلتقي في هذا المكان وهذا الزمان كي نتحدث فقط. أوجز قصة حياته التي تفوق على تسعين عاماً في حديثنا الذي كاد يصل لساعة وكلي آذان صاغية. لخص لي في هذه الساعة تجاربه وقصصه وقدم نصائح تكتب بماء الذهب وما هي إلا نتاج سنوات من الألم والكفاح والفشل والنجاح والفرح والترح.

ما جعلني أرتاح للحديث معه غير كبر سنه واسترساله في الحديث هو حينما قال بأنه هاجر من بريطانيا إلى أستراليا ولم يقل انتقل أو أي كلمة أخرى، فقد كان منصفاً صادقاً. لأنه للأسف بعض الأستراليين يرون بأن لهم الحق في هذه الأرض ولا يرون أنفسهم مستعمرين أو على أقل تقدير مهاجرين. الجدير بالذكر أن تاريخ وجود السكان الأصليين في أستراليا يعود لأكثر من ٦٠ ألف سنة وكانت تقدر أعدادهم بـ ٧٥٠ ألف نسمة وبقرابة ٢٥٠ لغة مختلفة. لكن حينما هاجر الأوروبيون لأستراليا قاموا بمذابح كثيرة ولم يتبقى من السكان الأصليين سواء ٦٠ ألف فقط بعد انتهاء هذه المذابح في عام ١٩٢٠م، وهناك من مات أيضاً بسبب الأمراض خصوصاً تلك التي نقلها المستعمر. كما انقرضت أكثر من نصف لغاتهم ولم يعد لها أي وجود على الرغم من وجود بعض المشاريع الوطنية لإعادة أحياء ما تبقى منها.

يقول ديفيد ذو التسعين عاماً أنه اعتاد على القدوم للمستشفى منذ فترة بعيدة جداً حيث كان يعمل في المستشفى ككبير المهندسين قبل أن يتقاعد في عام ١٩٩٠م تقريباً. وبعد تقاعده أصبح يأتي للمستشفى للمراجعات والفحوصات الطبية برفقة زوجته. فمرةً يأتي لموعده ومرةً يأتي لموعدها ولا يكاد يغيب عن المستشفى. لكنه الآن يأتي بمفرده بعد أن فارقت زوجته الحياة قبل سنة وستة أشهر تقريباً. آلمتني جملة ديفيد حينما قال بكل عفوية بأنه لا يكاد يجد من يتحدث إليه، فجُل من يعرفهم ومن هم بنفس عمره قد توفوا بما فيهم أخوته الأصغر سنناً منه! لكنه الآن يحاول ملئ هذا الفراغ بالاهتمام بمزرعته الصغيرة في فناء بيته الواقع على ضفة نهر مدينتنا. سكت لوهلة ثم أخرج من جيبه هاتفاً ذكياً ملوحاً لي به قائلاً بفرحة بأنه قد اشتراه قبل مدة قصيرة وأنه منبهر بكل ما فيه، ويقول بأنه بدأ يتعلم استخدام التقويم علي هاتفه وذلك لتنظيم مواعيده وزياراته. لكنه متأففاً لما حصل له حينما ذهب لشراء غطاء حامي له قبل مدة، لكنه لم يجده في كل محال الهواتف حيث أخبروه بأن الهاتف قديم ولم تعد المحال تبيع الملحقات الخاصة به. قلت مستغرباً: متي قمت بشرائه؟ فقال: إنه اشتراه قبل سنة ونصف أي بعد وفاة زوجته تقريباً! فلم أعلق واستغربت قوله بأنه اشتراه منذ فترة قريبة!

قال الكثير في هذه الساعة لكن استأذنته في نهاية حديثه في طرح سؤالين عليه فسعد بذلك، وعادةً ما أطرح هذين السؤالين على كل من قابلت من كبار السن. فسألته ما الشيئين التي لاحظت تغيرهما بشكل كبير خلال التسعين سنة الماضية ونحن الآن على نهاية عام ٢٠١٩م. قال وبدون تردد بلغته: "Speed of life" أي سرعة الحياة وهنا فهمت قوله حينما قال بأنه أشترى هاتفه منذ فترة قصيرة لكنه لم يجد له غطاء حامل. فتتنافس الشركات في طرح كل جديد زاد من ثقافة الاستهلاك فأصبح الكثير في سباق مع الزمن لاحقاً خلف شراء كل جديد ومبهر بالإضافة إلى تتدفق الإعلانات التجارية في كل زمان ومكان. أما الآن، فقد يُجدد أحدنا هاتفه الخلوي في كل سنة وأحياناً أقل من ذلك. بينما قديماً كان يُشترى الهاتف أو ما شابهه من الأجهزة ويبقى أحياناً مدى الحياة. وهذا ما أزعج صاحبنا ديفيد وزاد من تسارع الحياة في نظره. أما الشيء الآخر الذي تغير في نظره فقال: "Lack of manners" أي قلة الذوق وانحدار الأخلاق. وأظن الأغلب قد يتفق مع ما قاله على الرغم من تقدمنا علمياً وتقنياً إلا إننا نتأخر أخلاقياً. ولعل أيضاً تسارع الحياة ومطاردتنا للماديات ومواكبتنا لكل جديد والسعي خلف المتع اللحظية أدى إلى هذا التأخر الأخلاقي الذي سهل له أيضاً انتشار الشبكات الاجتماعية والاستخدام المفرط لها. وأدركت ن خلال تطرقه لهذه النقطة أنه يشير إلى عدم تقدير كبار السن والإهتمام بهم وهذا ما أظنه يواجه من خلال اسهابه في الحديث معي.

قلت إذاً ماهي أهم نصيحتين تود تقديمهما لمثلي بعد كل هذه السنوات؟ فقال: لا تطرد خلف المال واعمل ما تحب. والثانية: لا تكره لكن من حقك ألا تحب، لا تكره من أخطأ بحقك لكن لا تسامحه. أعجبني ما قال. فالكره بذرة سامة تؤذي من يستضيفها، وإن سمحت لها فستنمو وتكبر وتنبت غيرها وتثمر شوكاً يؤذيك قبل أن يؤذي غيرك، لكنني لم أتفق معه في ألا تسامح. قلت له أنني ومنذ فترة أحاول أن لا أكره أحد كما قلت ولكنني أيضاً أسعى جاهداً لمسامحة الجميع على الرغم من إيقاني بصعوبة ذلك. قال: لابد أنك تؤمن بدينٍ ما؟! قلت: نعم، أنا مسلم. فتبسم وقال: سأذكر لك قصة حصلتي لي مع أول مسلم قابلته في حياتي وذلك حينما كنت في إنجلترا السنة الماضية. حيث فقدت محفظتي بكل ما فيها من بطاقات ونقود في أحد الباصات واتصل بي من وجدها في الباص حيث كان رقمي على المحفظة. وحينما قابله ديفيد سأله لماذا لم تأخذها فقال له بأنه مسلم وذهب! وهذا ما ترك انطباعاً مذهلاً لدي ديفيد. لذا قد لا تؤثر ألف خطبة في رجل واحد بينما موقف رجل واحد يكون أبلغ من آلاف الخطب والكلمات!

هناك الكثير من الوقفات في هذه القصة والتي من الصعب اختزالها في هذه التدوينة. لكن لنفتش حولنا عمن يحتاج الإهتمام سواءً من كبار السن أو غيرهم. لنقدم كل ما نستطيع، فأحياناً الأهتمام والسؤال أو الحديث فقط هو كل ما يحتاجه شخص ما. زيادة تسارع الحياة وانشغالنا بهواتفنا وبشبكات التواصل الإجتماعي يقتل أثمن اللحظات، بل قد يؤدي إلى موت بطيء لمعنى الحياة الحقيقي.

الأحد، 25 أغسطس 2019

قهوة إيرلندية ... لو سمحتي

اعتدت فيما مضى على شرب قهوة لذيذة المذاق في إحدى محلات القهوة في السعودية، وذلك حينما كنت أحتسيها مع السكر قبل أن أتوب من ذلك الذنب وأهتدي للطريق الصحيح للاستمتاع بها. هذه القهوة تسمى "Irish Coffee" القهوة الإيرلندية، وكنت لا أتنازل عنها بأي نوع آخر من القهوة.

في منتصف عام ٢٠١٣م، ذهبت لزيارة أخي في دبلن عاصمة جمهورية إيرلندا. وجمهورية إيرلندا هي دولة مستقلة تقع في جزيرة إيرلندا جنوب إيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة. كانت تلك الزيارة الأولى لي لجمهورية إيرلندا ولم تكن الأخيرة لوجود أخي فيها ولجمالها أيضاً. زرت فيها "Phoenix Park" فينيكس بارك، وهي من أكبر المنتزهات والحدائق في أوروبا حيث يفوق حجمها على حجم جميع حدائق لندن وأيضاً حجم"Central Park" سنترال بارك في نيويورك. يصل عمرها لقرابة ٤٠٠ سنة ويقيم في وسطها رئيس الجمهورية والسفير الأمريكي في إيرلندا. وزرنا أماكن أخرى منها النهر الذي يجري في وسط المدينة "River Liffey" ريڤر ليڤي وغيرها من الأماكن داخل وخارج العاصمة.

ذات يوم، ذهبت مع أخي إلى مقر دراسته وودعته للذهاب لإحدى المقاهي المنتشرة في وسط المدينة بالقرب من مقر دراسته. كان الأقرب لي والأفضل مكاناً هو "Starbucks" ستاربكس بجوار جامعة "Trinity College Dublin" ترينتي كوليج دبلن. قلت في نفسي وأنا متجهاً للمقهى: هذا الوقت والمكان المناسب لطلب قهوتي المفضلة ومن مصدرها في وسط عاصمة إيرلندا. الساعة لم تصل التاسعة صباحاً وكان المقهى ممتلئ بالزبائن من سياح وطلبة وموظفين ويكاد يصل طابور الطلبات لخارج المحل. كان المكان هادئاً ولا تسمع إلا أسماء أنواع الطلبات من كابتشينو واسبرسو إلى أصوات أجهزة القهوة وخريرها فقط. انتظرت في طابور الانتظار لقرابة ١٠ دقائق إلى أن أتى دوري في الطلب. فبادرتني الموظفة بسؤالي عن ماذا أريد. قلت وبكل ثقة وشوق: "آريش كافي، بليز" أي قهوة إيرلندية ... لو سمحتي. قالت: "ماذا؟" قلت في نفسي لعلها لم تسمع من صوت إزعاج أجهزة القهوة. فكررت عليها نفس الجملة لكن بصوت أعلي لعلها تسمع. فصمتت لوهلة وصمت كل من في محل القهوة! فعلمت أن هناك خطبٌ ما لا أعلمه.

أخرجت رأسها من فوق الكاونتر وقالت وهي تشير لمكان خارج محل القهوة: هناك عدة حانات تفتح بعد الساعة الخامسة مساءً ويمكنك الذهاب لهم بعد هذا الوقت وسيفرون لك ما تريد، ونحن نعتذر عن تقديمه هنا. لكم أن تتخيلوا أن كل من كان داخل المحل قد توقف عما يقوم به وأنصت لمحادثتنا خصوصاً بعد رفع صوتي حينما ظننت أنها لم تسمع ماذا أقول. تجمد الدم في عروقي وعرفت أن هذا الطلب لم يعد قهوة فقط، وأن صاحب هذا الطلب الذي تبدو على ملامحه الغربة متحمس لطلبه في هذا الصباح الباكر وفي أول يوم في الأسبوع.

خرجت في حيرة من أمري غاضباً على القهوة الإيرلندية عازماً على التوقف عنها للأبد. بحثت لاحقاً عنها فوجدت أن ثلثيها قهوة والثلث الآخر عبارة عن ويسكي إيرلندي مضافاً لها السكر والكريمة وتقدم حارة في الحانات والأندية الليلة. بينما أراد صاحبنا أن يحتسيها في وضح النهار غير مكترث بالزمان والمكان الذي طلبها فيه. وهناك الكثير من القصص فيما يخص مثل هذه التسميات عندنا في الوطن العربي التي يقع في طلبها المواطن العربي حينما يسافر للخارج مثل"Cocktail" كوكتيل و "Mocktail"موكتيل. فالكوكتيل هو مشروب كحولي مشكل يخلط فيها عدة مشروبات كحولية مع مشروبات غازية وأخرى طبيعية بينما الموكتيل فهو عصير مشكل غير كحولي. و "Mock" موك في اللغة الإنجليزية تأتي بمعنى زائف أو تقليد لشيء معين وتستخدم مع كلمات مثل Mock exam  و Mock presentation  وغيرها من مثل هذه الأمثلة.

لا أتفق مع مثل هذه التسميات التي تسبب الكثير من المشاكل والإحراجات خصوصاً حينما يكون الشخص في بدايات خوض تجربة جديدة. وليس من الجيد نقل مثل هذه التسميات كما هي إلا إذا كان المنتج كما هو ولم يتغير، والأفضل أن يكون منتج محلي وبتسمية محلية. هذه الإشكالات على مستوى المنتجات والأشياء المحسوسة فقط، لكن الأمر أكثر تعقيداً على مستوى الأفكار والتجارب سوآءً في نقلها أو إسقاطها على مجتمعاتنا!

الأحد، 28 يوليو 2019

تسييس الدين وسياسة الوطن

تتقاطع مصالح إيران الشيعية مع مصالح الإخوان المسلمين فنرى حماس وغيرها من جماعات الإخوان دائماً ما تكون قريبة من إيران وحكومتها وتوجهها السياسي وليس الديني، وذلك لأن كليهما مذهبان سياسيان وليسا بمذهبين دينيين في الأصل، فهم كما يقولون ويؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة أياً كانت هذه الوسيلة وأياً كان حكم استخدامها! وإن كان أتباعهم لا يعلمون بذلك إما لجهل بهم أو لأنهم يتبعونهم لمجرد حقدهم على من يتبعون النهج المعادي لهم كما يدعون. والنهج المعادي لهم هو أي نهجٍ آخر غير نهجهم. لذا فهؤلاء الأتباع يتبعون هذين المذهبين فقط للانتصار لأنفسهم وأهوائهم أو لجهلهم وبساطة عقولهم كما ذكرنا سابقا. وقد انجذبوا إلى هذين المذهبين وجذبوا غيرهم من خلال الشعارات العاطفية الطائفية فآمن بهم من آمن، وهذه هي طبيعة الشعوب العربية العاطفية.

ومما يتقاطع فيه الشيعة والإخوان هو وجود مرشد أعلى، له الطاعة المطلقة العابرة للحدود وقد ذكر الدكتور نبيل الحيدري مؤلف كتاب إيران من الداخل ومؤلف عدة كتب بنقطة خطيرة وهي بأن الإخوان كتنظيم هم تبع لولاية الفقيه ويدينون له بالطاعة والولاء. كما ذكر نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا محمد فاروق طيفور في مقطع فيديو له بأن ارتباطهم القوي بإيران وأن لدى إيران الرغبة في تسليمهم السلطة في سوريا كي لا تصبح لقمة سهلة لأمريكا ومن ستضعه أمريكا ليخدم مصالحها على حد قولهم. ويقول أيضاً كمال الهلباوي - المتحدث السابق بإسم التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في لقاء مع خامنئي وعلماء الشيعة-: "يجب أن تكون إيران نموذج يحتذى في كل شيء، نموذج يحتذى به في العدل، نموذج يحتذى به في حقوق الانسان، نموذج يحتذى به في جمع السنة والشيعة، نموذج يحتذى به في مركز الأمة الإسلامية"!!! ويقول أيضاً خالد مشعل قائد حركة حماس قال في إيران: "هذه إيران، إيران الاسلام، إيران المقاومة، هذه الثورة العملاقة التي نقلت إيران من حالة الى حالة". كما أكد أسامة حمدان مسؤول العلاقات الخارجية في حماس رسوخ العلاقة ومتانتها مع إيران مهما كانت الأحداث في المنطقة!!!  وقد ذكر المفوض السابق للعلاقات الدولية في جماعة الاخوان المسلمين يوسف ندا في مقابلة له في قناة الجزيرة أنه حينما احتل صدام الكويت أيد الاخوان هذا الاحتلال وطرح يوسف ندا مبادرة بتكليف من الإخوان على أن ينسحب صدام من الكويت مقابل إرسال جيش إسلامي على حد قولهم مكون من وحدات عسكرية من ماليزيا وأندونيسيا والسودان بقيادة إيران. وقال محمود الزهار عضو المكتب السياسي لحماس "أنه يجب أن تكون لهم مكونات طيبة مع العالم الإسلامي وخاصة إيران وحزب الله" رعايا الإرهاب في المنطقة!!! كما أن وجود جماعة طائفية مدعومة من إيران في غزة تسمى بحركة الصابرين نصرا لفلسطين "حصن" يثبت صحة ما كتب آنفا.

وما يتضح جلياً هو أن هدف الجميع في المنطقة ينحصر في الثروات المادية والهيمنة فقط وذلك من خلال استخدام الدين كسلم للوصول لهدفهم، لذا ما ترغب فيه إيران هو توسعها في المنطقة والفوز بأكبر قطعة منها حيث ترى بأن أمريكا هي المنافس الوحيد لها في المنطقة ولن يخدمها أحد في هذه المهمة مثل جماعة الإخوان المسلمين فرغبتهم في الحكم ملحة ومطمعهم السياسي فوق كل شيء وإن كان الدين أحياناً! ولعل التقارب الواضح والسريع الذي حدث بين إيران وإخوان مصر فور وصولهم للسلطة في عهد مرسي أكبر قرينة ودليل على ذلك. لذا يتم إقناع جماعة الإخوان المسلمين بطريقتين، الأولى بإعطائهم الحكم السياسي المطلق على سوريا مثلاً أو على أي منطقة عربية أخرى وهذا ما يتمنونه وما هو واضح. والطريقة الثانية عاطفية لأتباع الإخوان أو لمن لم يدرك حقيقة توجه الإخوان بعد من قادتهم، بأن لدى إيران هدف سامي وهو قطع الطريق على أمريكا وإسرائيل في السيطرة على المنطقة وأن أمريكا وإسرائيل هما العدو الأول للمسلمين، فتتم الصفقة!

أما ما يجتمع عليه إيران والإخوان وغيرهم من أعداء المملكة العربية السعودية هو حقدهم الدفين عليها ومعرفتهم بخطرها عليهم وإدراكهم لمكانتها وعمقها الديني والاستراتيجي في المنطقة. فنجد الحرب قائمة علناً من إيران وأذرعتها كحزب الله وجماعة الحوثي وسراً من ابنها المدلل الاخوان وجماعات وطوائف أخرى تدعي السلمية وتدعوا للحقوق والحريات وهي على عكس ذلك وسيكشفها الزمن قريباً. وأكثر ما يبرز ذلك هو الحرب الإعلامية الشرسة والمنظمة وأيضاً دعم الجماعات الداخلية في المملكة كالشيعة وداعش والقاعدة وغيرها وذلك بالمال والسلاح والدعم الإعلامي وتشجيعهم على صنع خلايا جاهزة تحرك بأمر من المرشد في إيران. وأخيراً وعجبي له هو انسياق المغفلين والواهمين من أدعياء الحرية ومطالبي الحقوق الزائفة خلف كل ما يهدم الوطن ويساعد على التفرقة وعدم جمع الكلمة، وتصديق الشعارات الزائفة!

وبما لا يدعْ مجالاً للشك هو توافق المصالح الأمريكية مع المصالح السعودية في الإدارة الأمريكية الجديدة. لذا قد نجد تفسيرا واضحاً لتدني مستوى العلاقات الدولية بينهم سابقاً في عهد إدارة أوباما. وذلك حينما لم تحرك أمريكا ساكناً في تدخلات إيران في شؤون الدول المجاورة ومحاولة تجييش الشعوب ودعمها للمليشيات والجماعات الإرهابية والمتطرفة وحربها بالوكالة في الدول العربية وهذا ما جعل العلاقة بين السعودية وأمريكا في توتر في ذلك الحين. فإيران وحلفاؤها الإخوان والجماعات الأخرى لا تربطهم مصالح ولا أي ايديولوجيات بالسعودية فالعلاقة شبه منعدمة، لذا فالعداء واضح وقائم على أشده ويسعون سراً وعلناً في كل ما هو ضد للسعودية وخصوصاً علاقاتها الدولية ودوّل مجلس التعاون، وهذا ما جعلهم يتغلغلون في قطر وجرها إلى هذا المنزلق الكبير الذي وافق هوى قطر القديم في أن لها مطامع أكبر منها في المنطقة، لذا كان من السهل استخدامها كأداة وتحويلها إلى مقر معسكرات لعدة جيوش وغرف استخبارات لعدة دول.

ما أرجو وصوله للقارئ في ثنايا هذا المقال أن الدين يتم تسيسه لأجل المصالح وأن السياسية لا دين لها إلا المصالح الاقتصادية المشتركة والنفوذ. كما أن هناك طوائف وجماعات أخرى لها دور كبير غير اﻹخوان وما الحوثيون وحزب الله وغيرهم إلا أكبر مثال. إلا أن المجال لا يسع لذكرها هنا وذكر الإخوان للتبسيط ولتوصيل فكرة معينة فقط. أخيراً، كن مع وطنك مهما كانت الظروف ومهما تكالب عليه الأعداء. كن مع وطنك مهما تعالت الأصوات ورفعت الشعارات. كن مع وطنك وإن خدعتك الخطب العاطفية والطائفية. ما كتبته هنا ليس بتحليل سياسي وإنما حصيلة قراءتي المتواضعة والقاصرة لما يدور حولنا، وأعلم بأنه غاب عني الكثير وجهلت الكثير أيضاً. لذا أرحب بكل معلومة أو تصحيح وألتمس العذر إن أسأت أو أُسئت الفهم، وتقبلوا تحياتي.

ملاحظة: نُشر هذا المقال سابقاً في صحيفة الوئام بتاريخ ٢٠١٧/٥/٣١م وتمت إعادة نشره في هذه المدونة مع بعض التعديلات والإضافات.


الأحد، 10 مارس 2019

الجندي المجهول

مما يعلمه الكثير بأن عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام وعهد حكم أصحابه الخلفاء الراشدين من بعده هو أفضل حكم إسلامي على الإطلاق وهم قداوتنا في ذلك، إلا إنه يغيب عن البعض بأن هذا العهد لن يتكرر. بالتأكيد يجب علينا الاقتداء بهم، لكن يجب أن نعرف أيضاً بأننا لن نستطيع أن نصبح مثلهم مهما بذلنا. كيف لنا وذاك نبيٌ مرسل معصوم ومن بعده أصحابه وخلفائه والمبشرين بالجنة. كيف لنا وقد ذكر حبيبنا صلى الله عليه وسلم بأن أفضل القرون هم قرنه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. لذا من المستحيل أن نقارن أنفسنا بهم، أو أن نقارن حكومة أو حاكم أو ولي أمر بالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وبصحبه أيضاً. فهذي مقارنة ظالمة وغير عادلة. هم بالتأكيد قداوتنا ونسعى إلى أن نكن مثلهم وهذا ما يجب علينا بأن نجتهد فيه، لكن لزاماً علينا أن نعرف أيضاً بأننا لا نستطيع أن نصبح هم أو أن نُقَارَنَ بهم.

مشكلة البعض بأنه يرسم في مخيلته دولة مثالية خيالية ويُحاكم كل الأنظمة والحكّام والحكومات لهذه الدولة التي في رأسه. وقد تكونت هذه الدولة في مخيلته من قراءته الخاطئة للتاريخ، حيث جمع أفضل ما في كل الدول الإسلامية السابقة من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى العهد العثماني وكوّن دولة إنموذجية خيالية. كما جمع أيضاً كل صفات الحكّام وكوّن صورة حاكم أسطوري في رأسه كرجل خارق. لذا فهو يقارن كل حكومة ودولة وحاكم بذلك النموذج الخيالي الغير موجود أصلاً والمستحيل وجوده أيضاً في عصرنا هذا وإلى أن تقوم الساعة. وحينما يقوم بتطبيق هذا النموذج على حاضرنا يصدم بالواقع وبالحقيقة والتي هي أصلاً من سنن الحياة، فيصبح بعد ذلك متأففاً ناقداً ناقماً لا يرضيه شيء وينشغل بالتنظير بتلك المقارنات والمثاليات ولا يساهم في أي تنمية أو تطوير سواءً لنفسه أو لمحيطه ومجتمعة ووطنه، ويندب حظه، وكثيراً ما يستذكر تلك الدول والأسماء وانجازاتها في كل محفل ومبادرة ومع كل تغيير أو تجديد! لذا يمكث هامداً خاملاً ينتظر بطلاً منقذاً مجهولاً كي ينقذ العالم!

أظن بأن هذا التفكير هو نتيجة خطأ في طريقة سردنا للتاريخ وطريقة قراءتنا له أيضاً. أكثر القصص جعلت الانتصار في شخص فرد بعينه بأنه هو المنقذ البطل الفذ، وأغفلت جانب المجتمع وأفراده بشكل عام حيث يشعر القارئ بأنه هو ومجتمعه لا يستطيعون عمل أي شيء، وعليهم انتظار ذلك البطل المنقذ. وعلى النقيض، قد تجد من يتحمس ويحمل نفسه فوق طاقتها وقد يؤدي ذلك إلا هلاكه وهلاك مجتمعه، حين يحصر الأمة ورقيها ونصرتها وتطورها فيه شخصياً ويتمثل داخله بأنه هو المنقذ البطل الذي ينتظره الجميع. تلك الصورتين خاطئتين وفي غير محلها ولن تحرز أي تقدم لا للفرد ولا للمجتمع.

إن طريقة تعاطينا مع التاريخ وقراءتنا لأحداثه هي ما يجب علينا إعادة النظر فيها. فهي إما تكون لدى الشخص صور خيالية مثالية نموذجية عن حكومة وحاكم ودولة. أو قناعته بأن كل انتصاراتنا وتفوقنا وتقدمنا التاريخي القديم كان بجهد شخصي فردي فقط، فتجعل القارئ ينتظر هذا البطل. أو أخيراً تُحمّل المتلقي ما لا يطاق فيهلك نفسه ومجتمعه. وكل هذه القراءات الخاطئة للتاريخ تشل الفرد والمجتمع على حدٍ سواء. فهذه السطحية في الطرح والبساطة في التعاطي مع التاريخ جعلت من القصص التاريخية والأحداث السابقة مجرد حكايات للتسلية وأغفلت جانب المجتمع بأفراده ودورهم ككتلة صلبة تعمل المستحيل.

الأحد، 3 مارس 2019

المسجوع الموضوع المطبوع

التقيت بأشخاص كثر في بلاد الغربة خلال العشر سنوات الماضية، وسمعت عبارتين شدت انتباهي كثيراً وكانت في غاية الغرابة، وتردد مع هاتين العبارتين عنوان كتاب يحملهما أيضاً. وغالباً إذا ما ناقشت أحدهم في مواضيع ذات صلة قال لي ألم تقرأ هذا الكتاب؟ يجب أن تقرأه، في إشارة إلا أن من لم يقرأ هذا الكتاب فهو مغيب وينقصه الكثير، فزادت دهشتي وتحمست لقراءة هذا الكتاب رغم تسويقهم السلبي له. قمت بشراء هذا الكتاب من معرض الكتاب في الرياض قبل قرابة سنة وأكثر ووضعته مع بقية الكتب الكثيرة التي اقتنيتها ولم أقرأها! على أية حال. قررت قراءة هذا الكتاب منذ فترة قصيرة وللتو انتهيت منه. دونت بعض الملاحظات وربطتها بتلك الأحداث والأشخاص طيلة فترة اغترابي فخرجت بهذه القراءة الشخصية التي أحببت أن أشارككم إياها ولكي أستنير أيضاً بملاحظاتكم وتعليقاتكم. قد تكون هذه القراءة صحيحة وقد تكون خاطئة، لكن هذا ما أعتقده حالياً في حالتي الظرفية الحالية سواءً كانت زمانية أو مكانية أو غيرها.

العبارتان هما الاستبداد والاستعباد بجميع تصاريفها اللغوية والكتاب اسمه: “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لكاتبه عبد الرحمن الكواكبي المتوفى في عام ١٩٠٢م. الطبعة الأولى الصادرة عن دار الكتاب العربي عام ٢٠١٢م. التي قدم لها سعيد السَّنَّاري تقديم رائع ومثري. بعد قراءة الكتاب، يبدو لي أن الكاتب أسقط جل أحداث وقته بدون تسميتها أو تعيينها على محتوى كتابه. فهو متأثرٌ جداً بأواخر حكم العثمانيين واستبدادهم خصوصاً على العرب، وهذا ما أكده علي الوردي المتوفى سنة ١٩٩٥م في كتابه خوارق اللاشعور في صفحة ٥٩ حينما قال: "لقد كان الحكم العثماني في العراق حكماً خبيثاً دنيئاً من غير ريب". ولا شك لدي في هذه الخطيئة، إلا أنني أرى بأن جل محتوى كتاب الكواكبي هذا قاصر على تلك الفترة مع الاتفاق بوجود بعض الأفكار والتي قد تنطبق على كل زمان ومكان. لذا هذا الكتاب في رأي هو مجرد رأي شخصي لكاتبه يدور حوله ويجمع كل ما يستطيع كي يثبت وجهة نظره، ومن حقه، وهي بأن أصل داء الأمة هو الاستبداد السياسي وأن ما أفسد الدين والإيمان هو الاستعباد!

لكن الكاتب أطلق على كتابه مصطلح "بحث" بينما نجده يفتقد لأهم أساسيات البحث من ذكر المراجع والإشارة إلى المصادر والأهم عرض وجهات النظر الأخرى أو المخالفة والتي كثيراً ما يقصيها ويجرح بمؤيديها! فقد أشار أكثر من مرة لأحاديث لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها بدون تخريجها. ولوحظ محاولته استخدام كل ما يخص فكرته وإن جرّح في أشخاص وإن استخدم معاني أخرى لآيات وأدلة في غير موضعها بلّيي أعناقها كي تخدم فكرته. فتجده يقول بأن بعض العلماء والملوك والحفاظ افتروا أقوالاً على الله ورسوله صل الله عليه وسلم بينما هو يستدل بأدله وأحاديث ضعيف وغيرها. كما لاحظنا نعته للمعارضين ومن لا يتفق معهم بحيوانات كالكلاب والبهائم وغيرها. كما أن الكتاب لا يخلو من الأخطاء اللغوية الكثيرة والأسماء الخاطئة والاستدلالات الضعيفة.

وهناك ملاحظة خطيرة في هذا الكتاب وهي كثرة ورود لفظ العوام والعامة ونعتهم بالجهل وعدم القدرة وعدم المعرفة، وفي هذا تعميم خاطئ وذم غير صحيح. وهنا يتبادر لذهن القارئ بأنه ليس هو المخاطب فيضع نفسه مكان المثقف الواعي فيؤمن بما ورد في الكتاب كي لا يكون في زمرة العوام، فيُخدع ويخدع! والعجيب في هذا الكتاب أنه إذا قُرئ وفي مخيلة القارئ بلد معين بحكومته وشعبه فَسَيُسقط كل ما ورد في هذا الكتاب على هذا البلد وسيزيد حنقاً وكرهاً له ولن يجعل من المتلقي إلا ثائراً ناقماً لا مصلحاً محباً.

لذلك هو كتاب ثوري يدعوا للثورة والخروج على الحكام وعلى أولياء الأمور بطريقة مباشرة وغير مباشرة. حيث يرمي كل من لا يتفق معه بالاستبداد أو أنه عامي لا يفقه أو أنه مستعبد ولا خيار آخر لمن لا يتفق معه. وقد ينطلي هذا الأمر على بعض المتلقين، فتجدهم يتفقون معه بلا شعور كي لا يُنعتون بتلك الصفات التي نعت بها من لا يتفق معه. فتجده يقسم الناس بين أسرى ومستصغرين وبؤساء ومستنبتين وبين أحرار وأحياء وأعزاء. وهذا تعميم لا يصح على إطلاقه وقد يتوهم البعض بهذه الصفات ويتلبسونها. حيث وضعهم الكاتب في قالبين لا ثالث لهما.

ومن عجائب هذا الكتاب أن كثير من الثائرين وأدعياء الحرية والمساواة يؤمنون بما ورد فيه ويشيرون إليه كثيراً، بالإضافة إلى تأثرهم به. وذلك في ظني لما وافق ما لديهم من أفكار وآراء. لكنه يبدو متناقضاً مع ما يسوقون إليه من حرية ومساواة حيث وضع الكاتب الزوجة من ضمن ممتلكات الرجل ومتاعه حينما قال: "وقد يتحيّل الأسير على حفظ ماله الذي لا يمكنه إخفاؤه كالزوجة الجميلة، أو الدابة الثمينة، أو الدار الكبيرة ...... إلى آخره" صفحة ٢١٠.على الرغم من ذلك كان مقبولاً اجتماعياً وعرفياً في سياق المجتمع وقد لا يعترض على هذا الطرح أبداً إلا أنه وصف غريب جداً لا يتوافق مع أفكار أكثر قارئيه، لكن هل غضوا الطرف عن ذلك؟ وعلى نقيض هذه الفئة، نجد بعض من أصحاب الخلفيات الدينية والشرعية يستدلون به رغم أن الكاتب أشار أكثر من مرة إلى فصل الدين عن الدولة وأيضاً استدلاله بأحاديث ضعيفة وغير صحيحة، فهل غضوا الطرف عن ذلك لموافقته لبعض أفكارهم؟ وهل اجتمعت تلك الفئتان على الإستدلال بهذا الكتاب رغم اختلافهما الكبير حباً في السلطة؟ الله أعلم!

وعلى رغم ما ورد في الكتاب من أخطاء كثيرة واعتقادات لا نتفق معها إلا أنه يحمد له في هذا الكتاب خطابه الموجه للأمة حيث ورد في ثناياه التالي: “يا قوم: هوّن الله مصابكم، تشكون من الجهل ولا تنفقون على التعليم نصف ما تصرفون على التدخين، تشكون من الحكام، وهم اليوم منكم، فلا تسعون في إصلاحهم، تشكون فقد الرابطة، ولكم روابط من وجوه لا تفكِّرون في إحكامها. تشكون الفقر ولا سبب له غير الكسل. هل ترجون الصلاح وأنتم يخادع بعضكم بعضاً ولا تخدعون إلا أنفسكم؟ ترضون بأدنى المعيشة عجزاً تسمونه قناعة، وتهملون شؤونكم تهاوناً تسموّنه توكلاً! تموَّهون على جهلكم الأسباب بقضاء الله وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر، ألا والله ما هذا شأن البشر!” وهذا الخطاب هو أفضل ما كتبه في كتابه. ففيه استنهاض للنفس والدفع بها للتغيير. ونتفق أيضاً بأن الاستبداد فعل مشين ظالم يؤدي إلى كثير من المفاسد لكن لا يجب تعليق كل مشاكلنا على هذه الشماعة. كما نتفق مع الكاتب أيضاً فيما طرحه بخصوص أن الوزراء والحكماء وأولي الأمر يجب أن يكونوا من خيار الناس ولا شك في ذلك. وأن يكون الأمر للأمة بالتشاور من خلال خيارها وألا يستبد الحاكم برأيه. كما أشار لنقطة أخرى مهمة فيما يتعلق بالمال وهي بأن من أسوأ مصادره هو التمول والاتجار بالدين والربا والملاهي وما يورث من فساد أخلاق. وقد أبدى الكاتب شجاعة في طرح مثل هذه المواضيع في تلك الحقبة الزمنية وكان أيضاً سبقاً حيث أنها لم تطرح بمثل هذا الشكل من ذي قبل.

ختاماً: يجب علينا عند القراءة أن نحكّم عقولنا لا أن نسلمها لغيرنا. أن نعرض ما نقرأه على عقولنا ونقوم بتحليله ومراجعته ومناقشته وعدم التسليم والإيمان به. ولو راجعنا كثير من أفكارنا الخاطئة لوجدناه غالباً ما تتأثر بالآراء المطبوعة والأحاديث الموضوعة والأقوال المسجوعة التي تُقيد فكر القارئ والمتلقي وتوهمه كثيراً فتصبح مسلمات للأسف ويتم التحاكم لها رغم تناقضها الكبير.

الأحد، 17 فبراير 2019

مخترع الشطة

فرحت واستبشرت حينما قال لي بأنه يحاول تعلم اللغة العربية ويسعى لاكتسابها وإتقانها. شعرت حينها بفخرٍ أكثر تجاه لغتي وأن صاحبنا قد أحبها وأعجب بها وبأهلها فقاده هذا الحب والإعجاب لها ولتعلمها. لكن ريثما تلاشى ذلك كله في غمضة عين. في عام ٢٠١٣م، وفي معهد اللغة التابع لجامعة مانشستر في بريطانيا، كان يدرسنا معلم لغة غريب الأطوار يأتينا مرتين في كل أسبوع، يعلمنا تارة ويقص علينا مغامراته تارة ويحدثنا عن تجاربه التجارية الخاصة تارة أخرى. إلى أن وصل به الأمر عن حديثه عن اختراعه لخلطة شطة جديدة وقام بتسويقها لنا!

ما لا يعرفه الكثير عن مدرسي اللغة في المعاهد وخصوصاً في بريطانيا، بأن نسبة كبيرة منهم غير متخصصين في اللغة. هم فقط متحدثون بها بصفتها لغتهم الأم ويحصلون على هذه الوظائف كمدرسي لغة بعد إلتحاقهم ببرنامج تدريبي يسمى سيلتا “CELTA” وهو اختصار لـ "شهادة تدريس اللغة الإنجليزية للبالغين"، وذلك لمدة أربعة إلى خمسة أسابيع بحوالي قيمة ٢٨٠٠ جنيه إسترليني، أي قرابة ١٤ ألف ريال سعودي. يحصل المتدرب بعدها على شهادة تؤهله لتدريس اللغة الإنجليزية كلغة ثانية وكلغة أجنبية للبالغين. أغلب هؤلاء المدرسين يتقدمون لمثل هذه الوظائف بعد أن تضيق بهم سبل العيش، وذلك لقتل أوقات فراغهم وللحصول على مردود مالي جيد، فلا شغف ولا حب ولا تخصص يقودهم لهذا العمل. لذا تجدهم مثل صاحبنا صاحب الشطة، وأغرب من ذلك أيضاً!

الجدير بالذكر، أنه في عام ٢٠١١م، كنت مديراً لأحد معاهد اللغة الإنجليزية في السعودية. تقدم لنا حينها في ذلك العام موظف أمريكي في قاعدة جوية مجاورة، وذلك للتدريس معنا في وقت فراغه كدوام جزئي. عرضنا عليه الموافقة المبدئية شريطة أن يخضع لاختبار معين لدينا. أنهى الاختبار لكن الغريب أنه لم ينجح فيه، وحصل على درجات متدنية جدا. بل أنه أرتكب أخطاء لغوية فادحة بالنسبة لمدرس لغة! مع العلم بأن اللغة الإنجليزية هي لغته الأم ويجيد تحدثها أفضل من مدير المعهد وجميع مدرسيه!

المهم، نعود لمدرسنا صاحب الشطة. ذات مرة أباح لنا بأن أحد مغامراته القادمة هي تعلم اللغة العربية وأخبرنا أيضاً كم هو شغوف بذلك. سررت بهذا الهدف وعقدت العزم على مساعدته بكل ما أستطيع من قوة، وقلت في نفسي هي أيضاً فرصة لتطوير لغتي الإنجليزية. سألته لماذا تريد تعلم اللغة العربية؟ ما الذي جذبك نحوها؟ فكانت الإجابة للأسف صادمة رغم بساطة مفرداتها. قال: بأن الشرق الأوسط ملئ بالأحداث وكل التغطيات الصحفية والإعلامية لكل الشبكات والقنوات العالمية تهتم بهذه المنطقة وبأحداثها، وتلهث خلف الخبر هناك. وأنا أرغب بالعمل هناك كمراسل لهم يتسنى له النزول لميدان العمل والاحتكاك بالمجتمع، لذا يجب على أن أكتسب اللغة العربية أو على الأقل أتعلم أساسياتها، كي أتمكن من الحصول على وظيفة هناك. وانتهى حديثه.

حينها توقفت مع نفسي كثيراً ومكثت ملياً أفكر في أسئلة جالت بخاطري فلم أصل لإجاباتٍ لها لكن حيرتها تملكتني! هل صحيح أن الآخر يرانا مصدر رزقه بتفرقنا بحروبنا بتنازعنا بمصائبنا؟ هل من مصلحته أن تستمر آلامنا كي ينعم هو؟ هل حروب الشرق الأوسط ومجاعات وأمراض أفريقيا وآسيا هي أهم عوامل بقاء الآخر وثرائه؟ فلا إعلام ولا اقتصاد ولا سياسة بدون هذي المآسي والآلام! هل يعامل ذلك الآخر القوي غيره القوي بندية ويجامله بينما يعامل الآخر الضعيف بفوقيه فيستبيح أرضه ويستولي على ماله وثرواته؟ هل هذا الشخص يمثل نفسه فقط أو يعكس تفكير مجتمع كامل؟ هل يعكس تفكير مؤسسات ذلك المجتمع وشركاته وحكوماته؟ أعلم بأن التعميم لغة ظالمة، لكن هل تعكس لنا مثل هذه الأحداث بطريقة أو أخرى كيف يفكر الآخر وكيف يرانا؟ وهل الآخر صادق عندما يدعي مساعدتنا بتسويقه لقيم وأهداف سامية؟ وهل يصدق ذلك أحد؟ هل يعمل الآخر لوحده أم هناك من بني جلدتنا من صدقه ومن سخر نفسه ليهدم لا ليبني، لينتقد وينظّر لا ليعمل ويطوّر؟ هل هناك من جعل نفسه أداة في يد غيره؟ من جعل نفسه بوق فتنة ومعول هدم؟ ولماذا يجلس أكثر هؤلاء على كراسي عاجية في شقق وفنادق خارج أوطانهم، يمارسون التنظير في كيفية التطوير والتغيير مقدمين مصالحهم الشخصية على مصالح أوطانهم وأهليهم ومجتمعاتهم؟ هل العمل والبناء والتغيير يبدأ من الميدان؟ وهل الميدان هو الوطن والأهل والمجتمع؟ أم القاعات والفنادق والشقق؟ هي أسئلة قد تكون غريبة أو بسيطة أو لا إجابات لها، تداخلت مع بعضها فحيرتني كثيراً، لذا طرحتها هنا في آخر المقال لعلي أصل لبعض إجاباتها مستقبلاً إن شاء الله!