الأحد، 17 فبراير 2019

مخترع الشطة

فرحت واستبشرت حينما قال لي بأنه يحاول تعلم اللغة العربية ويسعى لاكتسابها وإتقانها. شعرت حينها بفخرٍ أكثر تجاه لغتي وأن صاحبنا قد أحبها وأعجب بها وبأهلها فقاده هذا الحب والإعجاب لها ولتعلمها. لكن ريثما تلاشى ذلك كله في غمضة عين. في عام ٢٠١٣م، وفي معهد اللغة التابع لجامعة مانشستر في بريطانيا، كان يدرسنا معلم لغة غريب الأطوار يأتينا مرتين في كل أسبوع، يعلمنا تارة ويقص علينا مغامراته تارة ويحدثنا عن تجاربه التجارية الخاصة تارة أخرى. إلى أن وصل به الأمر عن حديثه عن اختراعه لخلطة شطة جديدة وقام بتسويقها لنا!

ما لا يعرفه الكثير عن مدرسي اللغة في المعاهد وخصوصاً في بريطانيا، بأن نسبة كبيرة منهم غير متخصصين في اللغة. هم فقط متحدثون بها بصفتها لغتهم الأم ويحصلون على هذه الوظائف كمدرسي لغة بعد إلتحاقهم ببرنامج تدريبي يسمى سيلتا “CELTA” وهو اختصار لـ "شهادة تدريس اللغة الإنجليزية للبالغين"، وذلك لمدة أربعة إلى خمسة أسابيع بحوالي قيمة ٢٨٠٠ جنيه إسترليني، أي قرابة ١٤ ألف ريال سعودي. يحصل المتدرب بعدها على شهادة تؤهله لتدريس اللغة الإنجليزية كلغة ثانية وكلغة أجنبية للبالغين. أغلب هؤلاء المدرسين يتقدمون لمثل هذه الوظائف بعد أن تضيق بهم سبل العيش، وذلك لقتل أوقات فراغهم وللحصول على مردود مالي جيد، فلا شغف ولا حب ولا تخصص يقودهم لهذا العمل. لذا تجدهم مثل صاحبنا صاحب الشطة، وأغرب من ذلك أيضاً!

الجدير بالذكر، أنه في عام ٢٠١١م، كنت مديراً لأحد معاهد اللغة الإنجليزية في السعودية. تقدم لنا حينها في ذلك العام موظف أمريكي في قاعدة جوية مجاورة، وذلك للتدريس معنا في وقت فراغه كدوام جزئي. عرضنا عليه الموافقة المبدئية شريطة أن يخضع لاختبار معين لدينا. أنهى الاختبار لكن الغريب أنه لم ينجح فيه، وحصل على درجات متدنية جدا. بل أنه أرتكب أخطاء لغوية فادحة بالنسبة لمدرس لغة! مع العلم بأن اللغة الإنجليزية هي لغته الأم ويجيد تحدثها أفضل من مدير المعهد وجميع مدرسيه!

المهم، نعود لمدرسنا صاحب الشطة. ذات مرة أباح لنا بأن أحد مغامراته القادمة هي تعلم اللغة العربية وأخبرنا أيضاً كم هو شغوف بذلك. سررت بهذا الهدف وعقدت العزم على مساعدته بكل ما أستطيع من قوة، وقلت في نفسي هي أيضاً فرصة لتطوير لغتي الإنجليزية. سألته لماذا تريد تعلم اللغة العربية؟ ما الذي جذبك نحوها؟ فكانت الإجابة للأسف صادمة رغم بساطة مفرداتها. قال: بأن الشرق الأوسط ملئ بالأحداث وكل التغطيات الصحفية والإعلامية لكل الشبكات والقنوات العالمية تهتم بهذه المنطقة وبأحداثها، وتلهث خلف الخبر هناك. وأنا أرغب بالعمل هناك كمراسل لهم يتسنى له النزول لميدان العمل والاحتكاك بالمجتمع، لذا يجب على أن أكتسب اللغة العربية أو على الأقل أتعلم أساسياتها، كي أتمكن من الحصول على وظيفة هناك. وانتهى حديثه.

حينها توقفت مع نفسي كثيراً ومكثت ملياً أفكر في أسئلة جالت بخاطري فلم أصل لإجاباتٍ لها لكن حيرتها تملكتني! هل صحيح أن الآخر يرانا مصدر رزقه بتفرقنا بحروبنا بتنازعنا بمصائبنا؟ هل من مصلحته أن تستمر آلامنا كي ينعم هو؟ هل حروب الشرق الأوسط ومجاعات وأمراض أفريقيا وآسيا هي أهم عوامل بقاء الآخر وثرائه؟ فلا إعلام ولا اقتصاد ولا سياسة بدون هذي المآسي والآلام! هل يعامل ذلك الآخر القوي غيره القوي بندية ويجامله بينما يعامل الآخر الضعيف بفوقيه فيستبيح أرضه ويستولي على ماله وثرواته؟ هل هذا الشخص يمثل نفسه فقط أو يعكس تفكير مجتمع كامل؟ هل يعكس تفكير مؤسسات ذلك المجتمع وشركاته وحكوماته؟ أعلم بأن التعميم لغة ظالمة، لكن هل تعكس لنا مثل هذه الأحداث بطريقة أو أخرى كيف يفكر الآخر وكيف يرانا؟ وهل الآخر صادق عندما يدعي مساعدتنا بتسويقه لقيم وأهداف سامية؟ وهل يصدق ذلك أحد؟ هل يعمل الآخر لوحده أم هناك من بني جلدتنا من صدقه ومن سخر نفسه ليهدم لا ليبني، لينتقد وينظّر لا ليعمل ويطوّر؟ هل هناك من جعل نفسه أداة في يد غيره؟ من جعل نفسه بوق فتنة ومعول هدم؟ ولماذا يجلس أكثر هؤلاء على كراسي عاجية في شقق وفنادق خارج أوطانهم، يمارسون التنظير في كيفية التطوير والتغيير مقدمين مصالحهم الشخصية على مصالح أوطانهم وأهليهم ومجتمعاتهم؟ هل العمل والبناء والتغيير يبدأ من الميدان؟ وهل الميدان هو الوطن والأهل والمجتمع؟ أم القاعات والفنادق والشقق؟ هي أسئلة قد تكون غريبة أو بسيطة أو لا إجابات لها، تداخلت مع بعضها فحيرتني كثيراً، لذا طرحتها هنا في آخر المقال لعلي أصل لبعض إجاباتها مستقبلاً إن شاء الله!

هناك تعليق واحد:

  1. يقال أنه قيل لجحا في يوم ما..أن الفساد في مدينته قد تفشى فقال لهم أنه يسكن في حي خارج المدينة؛ فقيل له أن الفساد في نفس الحي الذي تقطن فيه، فقال أن منزله خارج هذا الحي؛ فقيل له أن الفساد مصدره منزلك..فقال أن خارج منزلي ولا أقطن فيه إلا نادرآ...
    الشاهد من هذه القصة ان هنالك الكثير من البشر ممن ينأ بنفسه عن مشاكل مجتمعه ويهرب بعيدآ عنها دون أن يبذل أدنى جهد للإصلاح..بل أنه يرى نفسه خارج نطاق هذا المجتمع ولا ينتمي له ...والأجدر بمن هو على شاكلته أن يتحمل مسؤولية إصلاح نفسه أولآ ثم أهل بيته ثم مجتمعه وحينها سنجد حتمآ مجتمعآ لن أقول عنه أفلاطونيآ ومدينة فاضلة..بل مجتمعآ نبويآ كله صلاح وفضيلة...

    شكرآ لإبداعك وتقبل مروري...
    سعد بن راجح...

    ردحذف