الجمعة، 26 أكتوبر 2018

فوضى

لا أعلم عن شخص تتزاحم في صدره المشاعر فتحوله إلى فوضى من الأحاسيس كالمغترب سواءً كان مبتعثاً أو غير ذلك. لا تكاد تمر نسمةُ هواء إلا وتحرك بداخله عواصف من المشاعر لا تهدأ. سمعت مرةً عما يسمى بـ "Butterfly Effect" وهو مصطلح تأثير الفراشة ويعني بأن رفرفة جناح فراشة في أقصى أطراف أمريكا قد تسبب عواصف وفيضانات في أقصى شرق آسيا! ويسمى أيضاً بـنظرية الفوضى ونظرية فوضى الكون ونظرية الشواشية ونظرية الديمنو "الضومنة" وأيضاً بتأثير كرة الثلج. ويعني ذلك كله بأن أحداث صغيرة جداً كـ "نسمة الهواء" تلك قد ينجم عنها نتائج وتأثيرات كبيرة جداً لا يمكن تصورها.

الغربة شعور غريب وإحساس غير محسوس يصعب التعبير عنه، بل وحتى يستحيل وصفه وتعريفه، ومن ادعى فهمه دون تجربته فهو بلا شك قد أخطأ، من يظن بأنه يستطيع أن يصفه أو يعرّفه فخطؤه أعظم بكل تأكيد. فلو قلت لمغتربٍ "كيف حالك" لاضطرب وخانه التعبير، وقد تسبب هذه الكلمة أعاصير وفيضانات وفوضى من المشاعر والأحاسيس ما قد يدمر الكون لو كان ملموساً قبل أن يرد عليك روتينياً بأنه "بخير"، فما بالك بإنسان قال عنه علي كرّم الله وجهه: أتـــزعــم أنــك جــرم صغـيــر، وفيــك انطوى العـالـــم الأكـــبر. لذا فالمغترب يأنس بقراءة وسماع قصص المكافحين ومن يشبهونه في بعض تفاصيل حياته كي يخفف ذلك من معاناته قليلاً ويساعده أيضاً في اكتشاف أغوار عالمه الأكبر. لكنه لا يقف عندها كثيراً، فجل المغتربين يزعمون بأن لا قصة تشبه قصصهم ولا معاناة أكثر من معاناتهم. قد يكون ذلك فيه جزء من الحقيقة لكنه ليس بحقيقة مطلقة.

في فوضى تلك المشاعر وزحامها، وقعت ذات مرة على قصة حدثت قبل قرون. لطفلٍ توفي أباه وهو في شهره الأول في بطن أمه، وولد بعد وفاة أبيه في بيئةٍ صحراوية جافة فقيرة، تنعدم فيها أدنى مقومات الحياة في ذلك الوقت. تكاد تمر عليهم الأيام تلو الأيام وهم لم يأكلوا طعاماً قط. ناهيك عن وحشية الصحراء وجفافها وقلة الأمطار وشدة الحر وحرارة الشمس إلى غير ذلك. ما إن ولدته أمه إلا وذهب لظروفٍ معينة لينتقل لعائلة أخرى فيمكث عندها قرابة السنتين ليعود مرةً أخرى لأمه. وحينما بلغ من العمر ست سنوات، قررت الأم أن تسافر لتزور قبر أبيه الذي يبعد عنهم قرابة ١٥ يوماً مشياً على الأقدام.

وصلا بعد أيام وأرته أمه قبر أبيه، ولك أن تتخيل أي مشاعر كانت تلك لطفل يتيم في بلد غريب لم يبلغ السادسة وهو يقف على قبر أبيه بعد رحلة سفر مهلكة! وبعد زياتهم لقبرِ أبيه، مكثوا عند أقاربٍ لهم عدة أيام ثم قرروا العودة لموطنهم. وهم في الطريق بعد قرابة ٣ أيام من المشي. تعبت الأم وسقطت أرضاً وأقبلت على الموت ثم رفعت يديها كي تحضن ذلك الابن، لكن يداه سقطت قبل أن تحتضن ابنها وفارقت الحياة! كان في صحبتهم امرأة، فقالت للطفل ساعدني كي أحفر قبر أمك ونحملها وندفنها فيه. ففعل وهو يبكي ونظره شاخصاً فيها والمرأة تحاول أن تصرف وجه هذا الطفل عن أمه الميتة. وحينما قبراها وعزما على الرحيل، كان يشيرُ على قبرها ويقول أمي! أمي! أمي! نعم أمه وكيف سيذهب بدونها. أي يتمٍ هذا وأي ألم هو ذلك. أي غربة بلا ونيس ولا قريب وما كمية المشاعر والآلام التي يحمله قلب ذلك الطفل!

لم أسمع بقصة يُتمٍ فيها من الألم ومن الغربة كهذه من قبل، ولن أسمع بعدها! لذلك حينما كنت أمر ببعض الآلام والعقبات أتعاظمها في نفسي لكنها أصبحت تتصاغر بعد سماع هذه القصة ولا زلت أسترجعها كلما تعاظمتُ معضلة أو مررت بألم. ليس هذا فحسب، فالقصة لم تنتهِ بعد، بل هي مجرد بداية. لك أن تتخيل أن ذلك الطفل هو أعظم إنسان عرفه التاريخ، ذلك الطفل هو قدوة البشرية ونبراسها وسراجها ونورها. ذلك الطفل هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قد تعود لبداية المقال وتقرؤه من جديد، ليس فقط لما أحتوى، بل لأنه كُتب بطريقة غير متسقة وغير منظمة تشابه فوضى مشاعر كاتبها. لكن أرجوك استحضر مع قراءته كل ما أنهكك وأدمع عينيك وأثنى عزيمتك فلعلك تعيد النظر في أشياء كثيرة، فتهدأ نفسك وتطمأن روحك ويسكن قلبك وتلتأم جراحك.

الأحد، 2 سبتمبر 2018

حربٌ باردة

في مدينتي التي أسكن فيها في أقصى أطراف أستراليا والتي يقطنها عدد قليل جداً من المسلمين وأقل من ذلك بكثير من العرب. التقيت بأخٍ عربي يحمل الجنسية الأسترالية في فناء الجامعة، حيث انتقل للتو من مدينة ملبورن للعمل في شركة هنا. تجاذبنا أطراف الحديث في السؤال عن أسمائنا وبلداننا. فبمجرد أن قلت له بأنني من السعودية قال: "احمد ربك بأنك لست في كندا وإلا كان وكان". طبعاً كانت هذه العبارة مدخلاً ذكياً وكان يعرف ما يريد أن يجرني إليه من حديث. أظن بأنه كان يتمنى بأن يلتقي بسعودي حيث أن له في أستراليا قرابة ١٨ سنة وأتوقع أنه لم يلتق بسعودي قط أو كانت اللقاءات عابرة ولم تسمح له بمزيد من الحديث كي يلقي عليهم كل ما سمع من سيء الأخبار العربية والصحافة الغربية وكل ما يدور في جلساته الخاصة حول السعودية شعباً وحكومةً، كأنه صاحب ثأر يريد الانتقام ! انفجر بكل ما لديه من معلومات مغلوطة وأخبار كاذبة وأخرى مجتزأة، وكان يلقي الاتهامات بطريقة مباشرة وغير مباشرة على المملكة العربية السعودية شعباً وحكومةً. والأدهى والأمر قوله بأن كل ما في العالم العربي من مشاكل وأزمات هو بسبب السعودية ! وهذا ما كان يرغب الوصول إليه من خلال عبارته الأولى! وقد استمر حديثنا لقرابة ٣ ساعات وقوفاً، ولم ننتبه لأنفسنا إلا بعد تَبَلُّلنا بالمطر وارتجافنا من البرد!

طبعاً لم يكن هو الوحيد بهذا الفكر، فقد التقيت بأمثاله كثيراً وخصوصاً في بريطانيا. قلت له في ثنايا حديثنا بأن لديك معلومات كثيرة مغلوطة وأخرى أسيء فهمها. فضربت له مثلاً بموقف مشابه لأخٍ آخر التقيت به في بريطانيا وكان سائق تاكسي وكان ذلك وقت بداية الأزمة السورية ولجوء إخواننا السوريين لعدد كبير من الدول. فقال لي مغتاظاً: لماذا لم تنصروا إخواننا السوريين وتستقبلونهم كما فعلت ألمانيا قبل أيام باستقبالها لمئات اللاجئين؟ وانظر أيضاً إلى بريطانيا كيف استقبلتني أنا وأمثالي. صَمَتُّ قليلاً وقلت له: مشكلتكم أنكم تنقلون الأخبار ولا تتأكدون من صحتها، وهذا اذا افترضنا حسن النية وأنها فقط أخبار مغلوطة! قلت: هل تعلم أن الآن وفي هذه اللحظة ما يفوق على مليون أخ سوري مقيمون في السعودية ولا يعاملون معاملة اللاجئين؟! فلهم حقوق مقاربة لحقوق المواطن ويتلقون التعليم والصحة مجاناً وغيرها من الخدمات. وهل تعلم أن اللاجئين في بريطانيا وأوربا أمثالك يتلقون الدعم عن طريق صندوق الأمم المتحدة الذي تدعمه السعودية وغيرها من دول الخليج؟! فصعق لما قلت ولم يحرك ساكناً وصمت إلى أن أوصلني مكاني. وحينما فرغت من القصة لهذا الأخ العربي قال: مليون سوري في السعودية! هذا رقم مبالغ فيه! فبحثت له في وقتها عن المصدر فوجدنا الرقم مختلف بعد مرور بضع سنوات، فالعدد الآن قرابة مليونان ونصف المليون من الأشقاء السوريين، فصدم وتعجّب!

أعلم يقيناً بأن كل ما قدمته المملكة العربية السعودية من مواقف سياسية وتبرعات مادية وأعمال إنسانية وتحركات دبلوماسية يفوق الوصف ويصعب عده وحصره. ولكن للأسف لم يصل للعالم الخارجي ولا الداخلي أيضاً عشر ما قدمناه! الشعوب بطبيعتها عاطفية، لذا كان للإعلام الأقليمي والخارجي دور كبير باللعب على عاطفة الشعوب وتشويه سمعتنا وتحجيم دور المملكة بطريقة أو أخرى، واستغلال عاطفتهم وجهلهم لتتحول إلى كره وحقد. لذلك إعلامنا برجاله عليهم حمل كبير بالعمل الجاد أولاً في تحسين الصورة الحالية لدى البعض وثانياً في إيصال الصورة الحقيقية للعالم بما تقدمه المملكة. وهناك دور كبير أيضاً على السفارات وعلى ملحقياتها الثقافية والإعلامية في ايصال إنجازاتنا وما نقوم به، بما في ذلك تسليح المبتعثين بالأرقام والأدلة كي لا يصبحوا عُزّل في هذه الحرب الباردة. كما لا يمكننا أن ننكر أنه مهما قدمت السعودية من مواقف فإن الخونة والحاقدين وأشباه الرجال من العرب وبني جلدتنا للأسف لا ينفع معهم إلا العزم والحزم. صحيح بأننا نحن في السعودية ولله الحمد مشغولين بتطوير أنفسنا وتنمية وطننا، ولم نفتش عن كوارث ومصائب غيرنا بل قدمنا لهم كل ما نستطيع. لذلك إذا ما تعرض لنا أحد فالرد عليه يكون بلغة الأرقام والأدلة فهي لا تكذب!

نعلم بأننا جميعاً نسعى لتطوير وطننا والرقي به ولله الحمد. لكن حذارِ أن نسمع لمن باعوا أوطانهم وخانوها أو من لا وطن لهم، لكي يُنَظِّروا لنا ما يجب وما لا يجب علينا فعله تجاه وطننا، وهم هاربون قابعون في فنادق البؤس وشقق التعاسة يقتاتون على فُتات العمالة والخيانة ويتشدقون بعبارات الكرامة والحريّة! فوالله لو رأيتم أنيابهم وعلمتوا عن سميّة ألسنتهم، لكرهتم ابتساماتهم ولإستقذرتم عذب كلامهم! فقط اسألوا من فقدوا أوطانهم وهم لا يزالون تحت أنقاض الدمار وركام الهلاك!

الأحد، 19 أغسطس 2018

يا صديقي

كثيراً ما تسود النقاشات الفكرية والدينية والعلمية على لقاءات واجتماعات المغتربين وخصوصاً المبتعثين. سواءً كانت في بلد الغربة أو في أرض الوطن. وذلك يعود لعدة أسباب، لعل أهمها اختلاف مشاربهم الفكرية وتعدد ثقافاتهم، وأيضاً ما يتعرضون له من خبرات ومواقف متعددة في بلد الغربة. في نقاشٍ ديني مع صديق لي، أُكن له كل التقدير والاحترام، قلت رأيي بكل عفوية في موضوع يحتمل احتمالات كثيرة ولم أصدر فتوىً دينيةً ولا حكماً فقهياً فيه. فأزبد وأرعد وجحظت عيناه واحمرّت ورفع سبابته في وجهي قائلاً لي بصوت عال وأسلوب فض وبوجه عبوس: راجع عقيدتك يا هذا ! فصعقت لما قال !!! وتوقفت عن الموضوع وعن الحديث تماماً.

ياصديقي، إن أخطأت فالصواب كما قال الله عز وجل "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". وإن أصبت أنا وجهلت أنت فالأصل "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". وإن كان كلانا على غير علم، فلا داعي لكل هذا، فالصمت والتريث والتبين أنجع الحلول. فقد قال : "يا أبا ذرٍّ، ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فو الذي نفس محمد بيده، ما عمل الخلائق بمثلهما" رواه البزار.

‏جهلك ياصديقي بفتوى معينة أو رأي مختلف لا يعني بأنك على حق وغيرك على باطل. حسن الظن ياصديقي والتريث في إطلاق التهم والأحكام يساعدك على فهم الآخر وتقبله. هيئتك يا صديقي وشكلك وكثرة عبادتك ليست حصانة لك بأنك لا تخطيء ولا شهادة لك بأنك تعلم كل شيء. ولتعلم يا صديقي بأن الدين كامل والمتدين ناقص! الدين أكبر وأرقى وأسما مني ومنك يا صديقي! الدين هو كل جميل راقي يسمو بالإنسانية إلى أعلى مراتب الحياة وقمة ذلك الأخلاق. لذا كان أسما هدف للرسول ﷺ هو "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فكل جزاء عظيم ومكافأة عالية أعدها الله للعبد سواءً في الدنيا أو الآخرة مرتبطة ارتباطاً عظيماً بحسن الخلق والتعاملات اليومية مع الإنسان أياً كانت صفته. ألم تسمع قوله : "أنا زعيم... وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" رواه أبو داود. الدين يا صديقي أخلاق سلوكية وعبادات تعاملية لا أحكام فقهية وعبادات شعائرية فقط. الإسلام أعمق وأبعد من مجرد أحكام فقهية فقط. الإسلام دين سلام وأسلوب حياة ورقي فكر وكمال أخلاق، ويفسد ذلك كله تقديس الأشخاص والآراء وتعطيل الفكر وإقصاء الآخر!

مسكين من يظن بأن الدين شكلاً قط، وتجده بئيس بغيظ، فض الأسلوب سلطوي الرأي أحادي الفكر. مسكين من يظن بأن الدين ملك له وحده ولأصحابه فقط، هو الأفضل والأكمل والأجمل والمتحدث الوحيد باسم الدين. مسكين من يظن بأن الدين من دونه لا شيء! يظن بأنه هو المنقذ البطل. يحاسب الجميع، يقاضي الجميع ويرمي بالأحكام هنا وهناك. مسكين من يصنف الآخرين ويجعلهم في قوالب وأحزاب معينة بهواه، الناس وتدينهم لله يا صديقي. أرقى منتج يمكن التسويق له هو الدين، وأسوأ طريقة يمكن التسويق بها هي الإكراه والتهديد والإقصاء والتشديد. فبقدر حكمة المسوّق تكمن فاعلية المستفيد!
  
وإليك ولي هذه الأحاديث يا صديقي والتي تغيب عنّا كثيراً: قال : "إنّ من خياركم أحاسنكم أخلاقا" رواه مسلم. وقال أيضاً : "ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء" رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال : "أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا" رواه الحاكم. وقال : "إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا" رواه الترمذي. وقال : "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار" رواه أبو داود. وقال : "حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" رواه أحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي : "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم" رواه الترمذي. وهو بذلك ﷺ أعظم قدوة في حسن الخلق فقد قال عنه الله عز وجل في كتابه الكريم "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ".



الأحد، 5 أغسطس 2018

حقيقة

أكبر ما يحول بين الإنسان وبين الحقيقة هو تقديس الرموز والشخصيات التي هي أدوات فقط لنقل جزء من الحقيقة ونشرها أياً كانت هذه الحقيقة. والأدوات هي وسيلة لنقل تلك الغاية "الحقيقة" وقد يعتريها ما يعتريها من تلف وسوء استخدام وإهمال إلى آخره! ‏لذا دائماً ابحث عن الحقيقة أينما وجدت ونوّع في استخدام الأدوات ولا تُقدسها، لأنها حتماً ستتغير أو تبلى يوماً ما على نقيض الحقيقة. ‏ومن العجيب أن هذه الأدوات قد تُهاجم وتُتّهم بما فيها وما ليس فيها سواءً بقصد أو بغير قصد وذلك لعدم قبول الحقيقة أو لتكابرٍ عليها أو لجهل. فتضرب الأدوات وتحارب ويتم التركيز عليها وبينما المقصود الحقيقة، لكنها لم تُهاجم ولم تحارب لأنها أكبر من الناقد والناقل ومستحيلة الهزيمة، وهنا يخدع المتلقي!!!

وهناك مثال على إحدى هذه الحقائق وأهمها وهي "الدين" وهذي الحقيقة تمس كل شرائح المجتمع باختلاف تفكيرهم بطريقة أو أخرى. ففي مجتمع من يطلقون على أنفسهم رجال الدين - مع أنني أرى أن من الخطأ أن نقول فلان رجل دين أو أن أحدهم يمثّل الدين وهذا خطأ أكبر أيضاً، فالأصح أن نقول فلان يعكس تدينه. لأن الدين كامل والمتدين ناقص! فلا كامل إلا وجه الله عز وجل ومن عصم - حينما يخطئ أحدهم فعلى الفور وبدون علم وبحث يتم تبرير الخطأ والتستر على صاحبه وأقصد هنا خطأ ظهر علناً وصاحبه بمكان القدوة. فتُسقط الأحاديث والأدلة إما لتبرير هذا الخطأ أو لتحصين صاحبه وجعله مقدساً والحديث عنه محرماً كدماء العلماء مسمومة وغيرها الكثير والكثير من هذه الإسقاطات التي كثيراً ما تكون في غير محلها وبغير استنادٍ علمي ولا دليل شرعي. مع أن الأولى لكل من سمع عن خطأ هذا الشخص أن يلتمس له عذراً ويحسن ظناً ولا يصدر حكماً بحقه سواءً كان نفياً أو إثباتاً إلى أن تتضح الأمور وتتجلى. فالقدسية لهؤلاء الأشخاص تولّد التبعية ومن التبعية يتم التلقين. ومن هنا تنعدم أدنى مقومات النقد والتحليل لدى المتلقي "المُلّقن" ولما يدور حوله، فيصبح "أعزل فكرياً". ومن يتربى على التلقين فقط يسهل "افتراسه فكرياً".

وعلى النقيض، نجدُ من لا يتطرق للدين أبداً بشكل مباشر بل يدور حول حماه ولا يترك شخصيةً أو رمزاً دينياً سواءً من الأحياء كان أومن الأموات إلا وتعرض له بطريقةٍ هزلية مرتكزاً على أدلةً دينية وعلمية متناقضة لكنها تدعم موقفه بحجة قوية بطريقة جزئية تنطلي على كثير من الناس إذا ما لم تُبحث وتُحلّلّ، وكثيراً ما نجدهم الآن في شبكات التواصل الاجتماعي. لذا يحال أن يكون نشاط هؤلاء الأشخاص بهذه الطريقة نشاطاً فردياً، فكمية المقاطع والصور والأدلة التي يجمعونها لا يستطيع أن يقوم بها شخصاً بمفرده أياً كان، ناهيك عن تحليلها ودراستها. بالإضافة إلى طريقتهم الهزلية والإستحقارية لمصطلحات دينية بحتة وإسقاطها على أشخاص وأسماء معينة بطريقة خبيثة وماكرة وبرمزية للخروج عن أي مسائلات قانونية. وإذا قلنا جدلا أننا أمام أشخاص لديهم هذه القدرات ويستطيعون القيام بهذه المهام الأربع في آن واحد، فإننا أمام أشخاص عباقرة جداً وهذا محال ويتبين من خلال اللقاء بهم والحديث معه وجها لوجه إذا ظهروا، أو في عدم ظهورهم نهائياً بأسمائهم الشخصية فهم يقبعون تحت معرفات وحسابات وهمية! فهل هم مجرد أبواق وسعاة فتنة؟!


الأحد، 29 يوليو 2018

غمضة


في أقصى أطراف أستراليا حيث بدأ هنا للتو فصل الشتاء على عكس أغلب دول العالم التي تشتكي من موجة حر شديدة، وأكثرهم صياحاً كانوا في أوربا! قبل أسابيع قليلة فقط أيقظني الألم في تمام الساعة الثانية صباحاً. البرد شديد والمريض جديد على هذه المدينة بل الولاية بل الدولة بل بالأصح جديد على قارة أستراليا كلها إن صحت التسمية الجغرافية. في هذا الوقت كل شيء مغلق بمعنى الكلمة. لا صيدلية تعمل ٢٤ ساعة ولا مستوصف ولا مستشفى أيضاً، باستثناء المستشفى العام الوحيد الذي يعمل على مدار الساعة، ولك أن تتخيل حجم المراجعين.

بلا مقدمات، صحوت على ألم شديد جداً في الأذن اليمنى. قمت بكل ما يمكن القيام به لتخفيف الألم من تناولي لبعض المسكنات وتنظيف الأذن إلى آخره. وللأسف لم يتغير شيء. كنت أسمع واقرأ قبلها بفترة عن شهرة أستراليا بالحشرات القاتلة كالعنكبوت الصغير ذي الظهر الأحمر والذي يعتبر قاتلاً فتّاك من الدرجة الأولى. شككت بل ذعرت بأنه قد حل ضيفاً في أذني أو غيره من هذه الحشرات القاتلة، ولك أن تتصور ما هي حالتي وتوتري مع كل هذه الظروف!

بعد جميع هذه المحاولات والتي بآءت بالفشل قررت الذهاب لهذا المستشفى الوحيد وهممت أن أتصل بأحد الزملاء أو بجاري الأسترالي المسلم "بنيامين". لكني آثرت أن أذهب بنفسي على إيقاظهم وإزعاجهم في هذه اللحظة المتأخرة من الليل. وهنا أستطرد - بأن المبتعثين ولله الحمد، لا يؤلون جهداً بأوقاتهم وأموالهم وبكل ما يملكون في خدمة زملائهم ويقدمون الغالي والنفيس لهم -. ولعلي أتحدث عن هذا الموضوع في مقامٍ آخر .

تحاملت على نفسي وذهبت للمستشفى وهي أول زيارة له، وأضعت وقتاً في البحث عنه وعن موقف للسيارة. سجلت دخولي بعد إعطائهم المعلومات وشرح تفاصيل الألم وأخبرتهم بشدته وأنني لا أستطيع الانتظار. أخذت مقعدي والألم يزداد شدة فرجعت لهم وأخبرتهم مرة أخرى، ولم يعيروني اهتماماً. لاحظت بأن أغلب المرضى يتخذ أسلوباً يرونه ذكياً لتعجيل عملية الدخول. لكنني ترفعت عنه بعزة العربي الأشمَّ. يستلقي المريض على الأرض في صالة الانتظار ويقوم البعض منهم بحركات استعطافية، لم ترق لي لكنها فعّالة!

ذهبت لهم مرة أخرى أخبرهم بشدة الألم فأرسلوا لي ممرضاً أو دكتوراً، لا أذكر، وناولني بعض المسكنات لحين يأتي دوري. تناولت هذه المسكان ولم يتغير شيء. بعدها بقليل، ومن حيث لا أشعر سقطت أرضاً مغماً علي، فتحت عينيَّ وإذ بكل من المستشفى وقد اجتمعوا عليّ. لم أفق بعدها مرةً أخرى إلا وأنا داخل الطوارئ وأظن ذلك بعد أكثر من ساعتين تقريباً. وهذي حيلة لم أحتالها! على أية حال، خرجت من المستشفى قرابة الساعة الثامنة صباحاً بعد تشخيصي بانسداد قناة صغيرة جداً "يا لضعف هذا الإنسان" تسمى قناة استاكيوس أو القناة السمعية.  بعدها بأسابيع وذلك الأسبوع الماضي بالتحديد، زرت المستشفى أيضاً لإجراءات طبية معينة تطلبت تخديري لمدة ساعتين، ومكثت في المستشفى من الساعة التاسعة والنصف إلى الساعة الثالثة ظهراً تقريباً.

الغريب وما شد انتباهي هو بأن مدة الإغماء وعملية التخدير كاملةً مرت وكأنها غمضة عين، ولا أعلم متى تمت وكيف تمت. وسرحت كثيراً أفكر بكل ما مر عليّ في حياتي أيضاً، فوجدته كذلك! مر وكأنه دقائق وثوانِ سريعة ولم يبقى إلا بعض الذكريات. اقتنعت بأن الحياة قصيرة جداً جداً وأقصر مما نتصور وهي مجرد ذكريات وأحلام، لذا فهي لا تستحق أن نضيعها بأن نكره ونشتكي ونتأفف ونلوم ونحسد ونحقد ونجفو إلى آخر ذلك. وأجزم لو قيل لأحدنا بأن لديه ٢٤ ساعة فقط للحياة، فسيصبح جل ما يعمله ويفكر به ويشغل باله مجرد توافه وقد آن الأوان للأهم. لذا فلنخبر أنفسنا بأن لدينا فقط هذه الحياة القصيرة ولنركز على ما ينفعنا ويرفعنا. وأبلغ إيجاز لذلك هو القول المأثور: " اعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا". عموماً، أنا هنا لا أقدم وعظاً ولا نصحاً بل أفكر بصوت عال فقط وأحوار نفساً تأسرها الذكريات وتسحرها الأحلام!

الأحد، 22 يوليو 2018

جامعو كُرات !

انتهى كأس العالم بخيره وشره. انتهت هذه التظاهرة العالمية بكل ملامحها الثقافية والسياسية والأمنية والدبلوماسية وأخيراً الرياضية. نعم أخيراً الرياضية. كان كأس العالم هذا ممتعاً بكل المقاييس داخل أرض الملعب، بل ناجحاً ومميزاً في تنظيميه من قبل المستضيف روسيا، وإن كنت أستغرب من تصريح الرئيس بوتين بأن بلاده قد تصدت لما يزيد على ٢٥ مليون هجوماً إلكترونياً ومعلوماتياً وغيرها من الأفعال الإجرامية أثناء كأس العالم! وقد يكون!

في حفل الافتتاح كان هناك مباراة رياضية مهمة، بين البلد المضيف روسيا والمنتخب السعودي. خسرها الأخير بنتيجة غير متوقعة ومؤلمة نوعاً ما. تندر به الكثير ونال منه القريب والبعيد واقحمت مواضيع السياسة والدين والاقتصاد والثقافة والإعلام بل وحتى التاريخ والجغرافيا في هذه المباراة الافتتاحية. بينما كان جمهوره الموجود في أزقة مدن روسيا المختلفة وطرقاتها يتعرضون بطريقة أو أخرى لأقذر أنواع العبارات والألفاظ العنصرية والأفعال الاستفزازية. وستعجب كثيراً إذا ما علمت بأنها لم تصدر من الشعب المستضيف ولا من شعوب العالم قاطبة، بل كانت صادرة وبكل أسف من شعب عربي يشاركنا الأرض والتاريخ واللغة والدين! ولا أعمم هنا بل أقصد البعض وهم عدد ليس بالقليل للأسف! كما أعلم يقيناً بأن ما كُتب هنا سيزعج البعض، ولا أكترث لهم ! لأني أولاً لا اكتب لإرضاء أحد. وثانياً: ما كُتب لم يتطرق للكرماء الأوفياء الأنقياء الأُمناء، وهم كثير ولله الحمد. ولن يزعجهم ما كُتب.

بينما كانت بعض الجهات الإعلامية العربية وبكل أسف وعار تبذل الغالي والنفيس لاستغلال هذه المناسبة ومباريات المنتخب السعودي خصوصاً لتمرير أجندة معينة والنيل من المملكة العربية السعودية وشعبها تحت غطاء الإعلام والمهنية الزائف والممزق! الشعب العربي بطبيعته عاطفي، لذا يلعب الإعلام الخارجي والإقليمي بشكل كبير على الوتر في توجيهه لأجنداتهم. لكنهم صدموا بشعب سعودي مختلف والذي يعد هو الأول بلا منازع في استخدام التقنية في المنطقة، حيث إن ٩٢٪ منهم يستخدمون الإنترنت بشكل يومي. لذا كان لهم بالمرصاد، فتغريدة واحدة فقط تدّك مضاجع مؤسسات وهيئات ووزارات إعلامية يصرف عليها مليارات !

على أية حال، لقد انتهت مباريات المنتخب السعودي وانتهت مباريات كأس العالم، لكن دعوني أُخبركم عن مباراة أهم لم تنتهِ بعد, وهي الأطول على مدى التاريخ. بدأت منذُ وقت ليس بالبعيد. حكم هذه المباراة هو نفسه مدرب الفريق الخصم! بينما الفريق الآخر والذي كان لديه جماهير كثيرة ومشجعون مختلفون لا يوجد لديه مدرب ولا يوجد لديه لاعبين محترفين بما يكفي، بل هم يتناقصون يوماً بعد الآخر وكذلك الجماهير الذين كانوا يحضرون المباراة فقط لوجود وجبات مجانية قل عددهم كثيراً، بل تحولوا لمدرج الخصم! على عكس الفريق الخصم الذي لديه في دكة الاحتياط عشرة أضعاف الفريق الأساسي، وقد يتخلى عن أي لاعب يشكل على المدرب أي خطر ولا ينصاع لأوامره ومع ذلك كله فلدى هذا الفريق الضعيف ظاهرياً الأمل الكبير والذي يؤمن به أيّما إيمان، لذا فهو سيكسب المباراة وإن طالت ومهما استمرت وسينتصر!

ملاحظة: هناك جامعو كُرات كُثر!

الأحد، 15 يوليو 2018

تأملات

لحواسنا حدود في الإدراك لا تتجاوزها، كما أنها لا تدرك كل شيء، إذ أنه قد يكون هناك حواس أخرى لا نملكها! لذلك قد نجد تفسيراً واضحاً لقوله تعالى "وما أوتيتم من العلم الا قليلا" فإدراكنا للعلم يكون عن طريقها، فهي قنوات التوصيل لعقولنا إذ ندرك من خلالها شتى علوم الحياة والكون!

فحينما نقول بأن الحواس هي مصدر الإدراك ومصدر العلوم نتذكر قوله تعالى: "ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين". فكل هذه حواس! فهي حجة عليه وله في اختيار أحد الطريقين، لذا فهي قنوات توصيل للعقل وبالتالي يقوم العقل بعملية التمييز واتخاذ القرار. وحين يقال عن الجنة "ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر" فهذا قد يكون تأكيداً لمحدودية حواسنا الحالية!!! بالإضافة الى عظم الجنة بكل تأكيد!

وإذا ما تأملنا في قوله تعالى: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”. فهذا قد يؤكد بأن حواسنا لا تستطيع إدراك ما هيّة الروح أو أن هناك فعلاً حواس أخرى لا نملكها في الحياة الدنيا وهي التي من خلالها ندرك الروح وماهيتها وغيرها من العلوم!!

وحينما نتفكر أيضا في قول المولى عز وجل: "ولقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين" فقد يكون تقويمه في السابق قبل نزوله للأرض يختلف عن تقويمه بعد النزول، إذ كان أحسن تقويماً في الحواس فيدرك ما لا يدركه الآن. أما الآن فتقويمه في أسفل السافلين بما لديه من حواس! فحالة الإنسان الآن هي أسفل مرحلة وأعلاها حينما كان في أحسن تقويم وذلك في الجنة! وهذا المعنى قد يكون واضحاً في قوله تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد"، فإدراك الإنسان عند الموت وحواسه أيضاً مختلفة تماماً عما كانت عليه في حياته الطبيعية!

فَخْلْقُ الإنسان الآن بكل مكوناته خلق دنيوي يتناسب مع الحياة الدنيا بينما كان في الجنة قبل نزوله للدنيا مختلفاً عما هو عليه الآن فقد أخبرنا الله جل وعلى عن ذلك في قوله: "فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة". فهذه إشارة واضحة إلى اختلاف الخلق على مستوى الجسد، فما بالك بالروح والنفس! وسوف يكون أيضاً خلقه في الجنة بعد الحياة الدنيا مختلفاً عما هو عليه الآن فإنه لا يعرق ولا يظمأ وعمره ثابت لا يتغير.... إلى آخره.

أنا هنا لا أطلق أحكاماً ولا أفسر ولا أنفي تفسيراً سابقاً لعلماء أجلاء، كما أنني لا أواجه نصاً قرآنيا وكيف لي! وإنما أطرح تساؤلات وأتأمل وأتفكر بأداة رزقنا الله إياها وهي العقل، ولم ينهنا عن استخدامها واستعمالها. بل إن لنا الحرية الكاملة في التفكر والتأمل. وطالما أن هذه التأملات لا يصدر عنها حكماً فقهياً ولا قدحاً عقدياً، فلا أرى بأن هناك مانعاً في نشرها وألا تكون حبيسةً عند صاحبها، فهي مجرد خواطر وتأملات. فقد تكون سبباً لفتح آفاقٍ كثيرة على كاتبها وعلى من يقرأها. كما أنني لا أجزم بأن كل ما قلته هنا صحيحاً ولا كل ما قلته خطأ، وقد أغير رأيي فيما كتبت في أي لحظة كانت، إذا ما توفرت لدي المعلومة الصحيحة. هي دعوةٌ للتفكّر والتأمل وأن يستخدم الإنسان عقله لا أن يسلمه لغيره تسليماً كلياً، وكثيراً ما أمرنا الشارع بهذا وحثنا عليه، فنحن أمام نهر لا ينضب وليس حكراً على أحد، ولا يستطيع كائنا من كان أن يفسده أو يوقفه!!!









الأحد، 8 يوليو 2018

بوصلة

في عام ٢٠٠٩ قضيت في لندن قرابة السبعة أشهر لدراسة اللغة، كنت أقطع يومياً رحلة طويلة من المنزل إلى المعهد يتخلل هذه الرحلة المشي وركوب الباص واستخدام القطار، وذلك لمدة ساعة تقريباً ذهاباً وساعة أخرى للعودة.

كنت أرى محطة القطار التي بالقرب من سكني في شمال غرب لندن كئيبة وتزداد سوءاً يوماً بعد يوم. حيث أنها هي المحطة قبل الأخيرة وكلما أقترب القطار منها كلما قل عدد الركاب فيها، وقد أصل وحيداً في أغلب الأوقات، ناهيك عن المدة الطويلة والمملة للرحلة وكثرة التوقف والتغيير من قطار لآخر ومن خط لآخر، سوآءاً بسبب الزحمة أو بسبب تعطل بعض القطارات. كنت طيلة هذه المدة لا أفكر إلا بالعودة للوطن وأرى بأن كل ما في الوطن جميل وما عداه سيّء “ولا زلت”. أعترف بأن تفكيري بتلك الفترة كان سلبياً نوعاً ما للأسباب المذكورة آنفاً.

المفاجأة أنه في آخر أسبوع لي في لندن وقبل عودتي للوطن، تغيرت نفسيتي فأصبحت سعيداً مبتهجاً مبتسماً، ولا أفكر إلا بالرحلة وبالوطن والاجتماع بالأهل وكل جميل يخطر على البال! وتفاجأت بأن تلك المحطة كانت مليئة بالزهور أكثرها معلقة وبعضها مزروعة، احتوت كل الألوان وشكلت لوحة فنية جميلة تناغمت مع الأشجار المحيطة بالمحطة وتزداد جمالاً مع غروب الشمس وشروقها. أكاد أجزم أنني طول تلك المدة "السبعة الأشهر الماضية" لم أرى شيئاً منها البتة! فتساءلت كثيراً أين كانت تلك الزهور والمناظر الجميلة قبل هذا الأسبوع؟! ولماذا لم أراها؟ ودارت أسئلة كثيرة بيني وبين نفسي وتعجبت كثيراً!!!

فوصلت لقناعة بأن السلبية حينما تكون طاغية في حياتنا فهي تحجب الرؤية عن كل ما هو جميل حولنا وبداخلنا! نعم تلك المشاعر السلبية التي ريثما أصبحت نظرة سلبية لجميع ما حولي هي التي حجبت عني الجمال وأنستني الاستمتاع باللحظة والعيش في الحاضر. وقس على ذلك كل ما في حياتنا وكل ما نمر به. حينما نفكر سلبياً فإننا بذلك نتجه نحو السلبية وتكون هي بوصلتنا في الحياة. ويقال بأن التفكير يؤثر على المشاعر ويغيرها والمشاعر أيضاً تؤثر على السلوك وتغيره وبالتالي حياتنا كلها تنقلب رأساً على عقب بسبب أفكارنا وطرق تفكيرنا.

يجب ألا نفكر إلا بكل ما هو إيجابي وجميل، سوآءاً كان ظاهره كذلك أو كان سلبياً. تساءلت كثيراً لماذا نقرأ سورة الكهف كل جمعة؟! فوجدت بأن فيها ثلاث قصص يبدو ظاهرها سلبياً ولكنها هي الخير، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم. لذا قال الله عز وجل في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله". فالتفكير إذاً هو محور حياتنا وبوصلة السعادة، فلنغير من طريقة تفكيرنا ونوجهه التوجيه الصحيح بإرادتنا، ولنركز على كل ما هو جميل حولنا ونتفاءل بالمستقل ونعمل من أجله أيضاً.

الأحد، 24 يونيو 2018

لكِ أنتِ !

نعم! لكِ أنتِ! وإليكِ أكتب هذه الكلمات التي تنبضُ حباً يعجز الحبر عن رسمه وأنا بغاية الشوق إليك، أستشعرك في كل لحظة من حياتي، أتنفسك مع كل نسمة هواء وأراك انعكاسا في كل شيء أمر به وتقع عيني عليه. عجزت أبحث عن الكلمات التي تصف مشاعري تجاهك، ثم تبعثرت مشاعري بين حروف اللغة وأردت أن أجمعها فلم أستطع إلا في أربعة أحرف. نظرت إليها فوجدتها قد فاضت حباً واشتعلت شوقاً وقد اختصرت كل الكلمات وتزاحمت فيها كل المشاعر، فالألف أنت أنا، والحاء حياتك هي حياتي والباء أنت بيتي ولا بيت لي إلا أنتِ والكاف كلي وكل ما أملك لكِ.

أعلم أنني مهما كتبت فلا ولن أجيد الكتابة في حضرتك، ليس حضورك الجسدي فبيننا آلاف الأميال بل أنتِ حاضرة في كل تفاصيل حياتي. إنني أقف عاجزاً عن التعبير لكِ رغم صدق الكلمات التي يكتبها قلبي بحبره على كتاب حياة منطوي لا أعلم في أي رفٍ سيوضع!

بالمختصر أنا كخيمةٍ في فلاةٍ ذات ريحٍ عاتية، أنتِ عمودها وأطنابها!

أمشي رويدا مثقلاً بجميل صنعك وفضلك علي. ارفع رأسي شامخاً وأروم ما يسُر خاطرك ويسعد قلبك ويرضي طموحك. وعند آخر درجة أصعدها وحينما أشعر بأنني وصلت للقمة، أُدرك بأنني للتو قد بدأت فأنا للتو عند قدميك، وتقصر خُطاي دون مجاراتك، فكل مجد أسعى له دونك!

تمنيت لو الخلق بيدي لخلقت لك من نفسي آلاف كي أكون لكِ سلماً تمشين عليه وغطاء تلتحفين به وحجاباً لكِ عن أشعة الشمس.

ليست المرة الأولى ولا الأخيرة إن شاء الله التي أعبرها لكِ بها عن ما أُكن، لكن أردت أدونها هذا المرة لكي تبقى ذكرى جميلة. كيف لا وهي قد ارتبطت بك. ولتكون أيضاً نبراساً لي أستنيرُ به كلما أظلمت علي. لدي الكثير والكثير وأستطيع الكتابة إلى ما لا نهاية لكن أخشى أن أُرمي بالجنون ولا ضير بأن أصبح مجنونك.

الأحد، 17 يونيو 2018

وجد أُمه



في أحد ليالي رمضان ٢٠١٣ في مانشستر، أول رمضان أكون فيه بعيداً عن الأهل والوطن حيث بدأ الصيف للتو هنا. نصوم قرابة العشرين ساعة، نمسك قبل الساعة الثالثة فجراً ونفطر قرابة الساعة العاشرة مساءاً تقريباً.

الساعة الحادية عشر والنصف مساءاً في أحد مساجد مانشستر، المسجد مكتظٌ بالمصلين من كل الجنسيات والأعراق يجمعهم الإسلام على اختلاف مشاربهم لأداء صلاة العشاء والتراويح. حضر أحد المصلين وبصحبته ابنهُ الذي لم يتجاوز السنة والنصف للصلاة حيث أن والدته تصلي معنا أيضاً في مكان مخصص للنساء بنفس الجامع. ابتعد الابن عن أبيه كثيراً إلى أن وصل إلى سلم "درج" في وسط المسجد. بينما نحن نصلي حاول الطفل مراتٍ ومرات صعود السلم، ولكنه مع كل مره يسقط ويصرخ صراخاً يتألم له القلب. في المرة الرابعة سقط متألماً على رأسه وأشتد صراخه ثم صمت فجأة لوهلة! ذُهل لها كل من في المسجد من شدة السقوط ثم عاود البكاء مرة أخرى والكثير إن لم يكن الجميع يترقبون ماذا حصل للطفل.

انتهت إحدى ركعتي التراويح وبدأ الهرج والمرج في المسجد، وأكثر من يتحدث هم الذين كانوا بالقرب من الحدث! أي أمام الطفل مباشرةً حين سقوطه. تحدث أحدهم لائماً الإمام على الإطالة في الصلاة رغم سماعه لبكاء الطفل. بينما رد آخر من جنسية مختلفة غاضباً "بل إدارة المسجد تتحمل الخطأ على عدم إغلاقها الباب المؤدي إلى السلم وتركه مفتوحاً على مصراعيه". إلا أن أحدهم من جنسية أخرى أيضاً قام بالتهجم على أبيه الذي آتى مسرعاً من آخر المسجد على إهماله لابنه وتركه هائماً في المسجد بلا اهتمام.

الغريب في الأمر أن كل الأشخاص الثلاثة، المختلفين في اللغة والثقافة والمذهب كانوا على مرأى من معاناة الطفل وما يحدث له أمامهم، جميعهم لم يحركوا ساكناً أثناء سقوطه رغم قربهم منه، خصوصاً سقوطه الأخير على رأسه الذي كاد يكسر رقبته ويؤدي بحياته، بل تركوه يبكي ويتلوى أمامهم دون أن يكترثوا له. وحينما انتهت الصلاة قام كلٌ منهم بإلقاء اللوم على الآخر. كان على الإمام أن يوجز في صلاته! كان على من هم قريب من الطفل أن ينقذوه! كان على الأب أن يبحث عن ابنه! إلى آخره...

من المعلوم في بريطانيا أن الأنظمة شديدة جداً ولا يسمح للطفل بالبقاء لوحده في المنزل ولا النزول للشارع. لذا كان الوالدين في حيرة من أمرهم بعدم استطاعتهم تركه في المنزل وعدم وجود أقارب لهم وخوفهم عليه من النزول في الشارع وقت الصلاة. ولو نزل للشارع وقت الصلاة وتم الإبلاغ عنه لحوسب المسجد والوالدين خصوصاً أن الساعة كانت قرابة الحادي عشر والنصف مساءً. ناهيك عن الوالدين أصلاً غير ملزمان شرعاً بصلاة التراويح في هذا الظرف وهذا الوقت!

حينها أدركت أنه رغم اجتماعنا في هذا المسجد وفي مساجد أخرى أيضاً من لغات وثقافات وبلدان مختلفة، واتحادنا في صف واحد، إلا أن هناك فجوة. تتمثل هذه الفجوة فيما لدينا من قصور بمعرفة الأولويات أو ما يسمى بفقه الواقع وأيضاً عدم المبادرة في إيجاد الحلول لمشاكلنا الحالية وبالتالي عدم تحمل المسؤولية الكاملة تجاهها. والانشغال بإلقاء اللوم على الآخر والانشغال بالبحث عن المخطئ دون الأخذ بزمام المبادرة.

لو تقدم أحدهم لحمل هذا الطفل وإبعاده عن السلم لكان ذلك أولى من ركعتين في صلاة تراويح. لأن حفظ النفس والرحمة بالأطفال أولى بمراحل من كثير من العبادات، لأنني أظن بأن الدين أخلاق سلوكية وعبادات تعاملية لا أحكام فقهية وعبادات شعائرية فقط! وكم من حدث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أولى فيه الأطفال والضعفاء اهتماماً أكثر من العبادات الشعائرية وخصوصاً أركان الإسلام بما فيها الصلاة المفروضة. فقد كان الرسول صلَّ الله عليه وسلم يخفف من الصلاة إذا سمع صوت طفل في صلاةً مكتوبة فما بالُك بنافلة وليس مجرد بكاء طفل، بل تعرضه لخطر وكادت تزهق روحه. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلَّ الله عليه وسلم قال: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي مما أعلم من شدَّة وجد أُمه من بكائه".

الخميس، 14 يونيو 2018

عيد مغترب

بينما تردد عبارات “عيدٌ بأية حال عُدت يا عيدُ” و“العيد ماله طعم ولا لون” و”العيد مو مثل أول” و”العيد تغير” و”لا عيد في العيد” إلى آخره من مثل هذه الجمل والعبارات التشاؤمية والسلبية، يتمنى غيرك أن يقضي عيده بين أهله وأحبابه وفي وطنه سواءً كان لاجئاً أو مغترباً أو مبتعثاً.

يقضي معظم المبتعثين مناسباتهم واحتفالاتهم الدينية والاجتماعية بعيداً عن أهاليهم وأوطانهم، إما في المكتبات الجامعية أو في قاعات الاختبارات أو في الفصول الدراسية. لا يكاد يجتمعون مع بعضهم البعض إلا ساعة من نهار وغالباً ما تكون وقت صلاة العيد. ثم يمضي كلٌ منهم إلى ما يشغله من دراسة وأبحاث واختبارات وغيرها. تخنقهم العبرات حينما يتبادلون مشاعر التهنئة والفرح بهذا العيد حينما يتذكرون أوطانهم. لكنهم يتجرعون هذه المرارة ويفرحون رغم كل شيء ويمضون فيما هم فيه.

ومع كل هذا تجدهم يشيعون الفرح فيمن حولهم، فتجد أحدهم يقوم بتوزيع الحلويات والهدايا مع بعض العبارات التي تعرف عن هذه المناسبة لجيرانه ومن حوله في السكن، فتكون لها عظيم الأثر عليه وعليهم ويكون بذلك خير سفير ومشرف لدينه ووطنه. بينما يقوم آخر بدعوة زملائه على وجبة أو على قهوة. أو تجد لهم أيادي بيضاء على الفقراء والمحتاجين من حولهم سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين. لذا لنتذكر إخواننا المبتعثين والمغتربين في كل مكان سواءً برسالة أو مكالمة أو هدية. يكون مضمونه التهنئة بكل تأكيد بالإضافة إلى تشجيعهم وتحفيزهم ورفع معنوياتهم والتأكيد على أن ما يقومون به هو مشرف وفخر وأنهم سينالون ما يسعون له قريباً. الكلمة أقل كلفة لكنها أعظم أثراً وما نحن إلا مجموعة مشاعر تحتاج لمثل هذه الأحاسيس والكلمات.

العيد فرحة ونحن من نصنعها بأنفسنا ويقع على عاتقنا إسعاد من حولنا وإدخال السرور عليهم بأي شكلٍ من الأشكال ولا عذر لنا في ذلك مهما اختلفت إمكانياتنا. الفرحة لا تحتاج إلا استشعارها والتعبير عنها. العيد شعيرة من شعائر الله ويجب علينا تعظيهما فقد قال الله عز وجل (ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). ولنكثر من الابتسامة ونجعلها ولنهنئ بعضكم بألطف العبارات. لنشعر دائماً بنعمة العيد مع بعضنا ونعيش اللحظة ونستمتع بها فالمستقبل بيد الله. ولنقتدي بالرسول ﷺ في حسن خلقه ونكثر من الصلاة عليه. ولنتذكر بأن العلاقات الاجتماعية لا تحكمها المعايير المادية بل تستمر وتقوى بالمحبة والمودة والتقدير والإحسان لبعضنا البعض. العيد ليس استعراض بجمال أو مال أو قوة، بل تآلف قلوب وتقارب أجساد ومحبة دائمة، فلنضع ذلك جانباً ولنعبر عن مشاعر الحب ونشيع الفرح والسرور.

لست واعظاً ولا مرشداً وإنما هي ممارسات وسلوكيات رائعة رأيتها بأم عيني قام بها من يمثل دينه ووطنه خير تمثيل. فلتتقبلوا هذه الخواطر المبعثرة والتي أوجهها لنفسي وأسأل الله أن أستفيد منها أولاً وقبل كل شخص ثم لكل من قد يمر عليها ويقرأها وكل عام وأنتم بخير.


الأحد، 3 يونيو 2018

تجربة الماجستير في بريطانيا

حينما عزمت السفر لبريطانيا لدراسة الماجستير وإكمال الدراسات العليا كنت أبحث عن كل ما يخص الابتعاث من دراسة اللغة والبحث العلمي ونظام الجامعات إلى آخره. وكنت حينها أتلقى نصائح ومعلومات ممن طلبت وممن لم أطلب! قال لي أحدهم ذات مرة، أنه يمكث جل يومه في الجامعة حيث أنه يذهب ليلاً ويعود ليلاً فقلت له كيف فقال: أنه يذهب قبل شروق الشمس ويعود بعد غروبها! وانتهى كلامه!

كان هذا الخبر كالصاعقة علي، فأنا للتو في بداية الطريق ولم يسبق لي بأن أمضيت ثلث هذا الوقت يومياً في الجامعة، فكيف بأكثر من ١٢ ساعة يومياً! علقت هذه العبارة بذهني لمدة طويلة، فصرت أتذكرها بين الفترة والأخرى قبل وأثناء الابتعاث. فقد أنارت لي كثيراً من حيث لم يشعر صاحبها على الرغم من سلبيتها المفرطة. صحيح أن السبب الرئيسي لابتعاثنا هو الدراسة وإنهاء ما ابتعثنا لأجله، لكن ليس بهذا الشكل وبهذا التعميم المطلق لعبارة صاحبنا. فلدى كل شخص مسؤوليات أخرى وعليه حقوق لغيره أيضاً. لكن حينما وصلت وجدت بأن الوقت الذي كان يتحدث عنه صاحبنا هو الشتاء، واليوم في فصل الشتاء في بريطانيا قصير جداً. تشرق الشمس قرابة الساعة الثامنة وتغرب قرابة الساعة الرابعة! ناهيك عن المدة التي يقضيها في المواصلات والصلوات والوجبات وإلى آخره، ما قد يجعل الوقت الذي يقضيه معقولاً أو أقل من المتوقع منه يومياً! لكن صاحبنا لم يوفق في التعبير ولم يكن دقيق في تفاصيل عبارته!

في بداية الماجستير كنت على تواصل مع زميل آخر درس نفس البرنامج العام الماضي. وبالطبع كان لدي استفسارات وكنت أسأله. أجابني على بعض الأسئلة مشكوراً لكنه للأسف قد مر بتجربة سيئة فكان طرحه سلبياً ولم يحسن الإجابة على بعض استفساراتي الأخرى ولم يحسن النصيحة مع اليقين بحسن نيته.

بدأنا الدراسة وتفاجأت بأول محاضرة حينما عرض لنا المحاضر "Presentation" عبارة عن أكثر من ٤٥ شريحة "Slides" في أقل من ساعتين، كان هذا العرض عبارة ٤ مواد درستها في البكالوريوس. فقط مر عليها مرور الكرام بدون شرح وبدون تركيز. وحينما كنت أسأله وغيره من المحاضرين سوآءاً وقت المحاضرات أو حين كتابة البحوث والعمل على رسالة الماجستير، كانوا كثيرا ما يرددون هاتين العبارتين بشكل مفرط والتي كانت عبارة عن خارطة طريق. الأولى: "It is not spoon feeding" وتعني بأن المطلوب منك هو أن تبحث وتقرأ وتتعلم بنفسك وتعتمد عليها بشكل كبير لا أن تُقدم لك المعلومة على طبق من ذهب دون أي عناء وبمجرد السؤال فقط. والعبارة الثانية وخصوصاً في مرحلة كتابة البحوث وهي: "Narrow it down"  بمعنى ركز على جزئية واحد ولا تتشعب كثيراً وتحاول أن تشمل كل المواضيع في موضوع واحد فقط، فأنت مجرد باحث واحد لديك وقت محدد لتنجز ما تبحث فيه. وما تقدمه بهذه الشمولية قد يحتاج لعشرات الباحثين كي يقوموا بتغطية وقد تحتاج لسنوات إذا ما أردت أن تفعل ذلك لوحدك.

يتطلب هذا كثير من الجهد والوقت خصوصاً في مرحلة كتابة الرسالة مدة ثلاثة أشهر فقد كنت أمضي في المكتبة يومياً قرابة ١٠ ساعات ما عدا إجازة نهاية الأسبوع. لكن في أيام الدراسة العادية فكان أقل من هذا الوقت بكثير وليس بكل يوم. طبعاً تجربتي هذي ليست بمقياس لأحد، فقد يحتاج أحدهم لنصف المدة أو ضعفها وليس شرطاً أن تكون محددة في مكان واحد كالمكتبة. تستطيع أن تبحث وتدرس في المكان الذي يناسبك كالبيت أو القهوة آو الحديقة أو أي مكان آخر. لكن ما أود الوصول إليه بأن التجارب تختلف من شخص لآخر وكذلك القدرات والمهارات والفروقات الفردية، فالناس ليسوا سواء. ومن الخطأ أن تسقط تجارب الآخرين عليك ولكن حاول أن تستفيد منها بقدر ما يعينك ولا تكن نسخةً لأحدهم. فقط حكم عقلك ولا تسلمه لغيرك.

خلاصة التجربة:

بعيداً عن الفائدة العلمية البحتة والتي هي صلب تخصصك، تتركز جل فائدة تجربة دراسة الماجستير في بريطانيا من وجهة نظري في أربعة عناصر مهمة والتي يتوقع منك أن تتطور فيها خلال سنة الماجستير المليئة بالتجارب والخبرات المتنوعة وهما:

عنصران رئيسان:
١ـ المهارات البحثية
٢ـ الكتابة الأكاديمية

عنصران فرعيان:
٣- إدارة الضغوطات
٤- تنظيم الوقت

وهناك عنصر خامس لم أذكره لبداهته وهو إلمامك بالتقنية. التقنية هي مفتاح كل شيء لك كباحث وكطالب دراسات عليا وهناك العديد من التقنيات والتطبيقات والمواقع التي قد تحتاجه ولا غنى لك عنها. فالتقنية كاللغة في أهميتها ومن لم يتقنهما فهو أُميّومن استطاع تطوير نفسه في هذه المجالات قبل بداية الماجستير فإن ذلك سيجعل تجربته بإذن الله أسهل وأمتع وطريقه للتميّز ممهد أكثر من غيره. واعلم زميلي المبتعث وأخي طالب الدراسات العليا بأن الماجستير هي بوابتك لمرحلة الدكتوراه والدكتوراه فقط تؤهلك لأن تكون باحثاً وليس عالماً، فلا تتوقف عند حرف الدال!

الأحد، 27 مايو 2018

يقظة


لسنا نُسخاً من بعضنا ولا تبع لبعضنا كذلك. خلقنا الله مختلفين في الشخصيات والتوجهات، لا لنختلف وننتقص من بعضنا البعض بل ليكمل بعضنا الآخر. لذا ليس شرطاً ان نتوافق في مواهبنا وأفكارنا وأنماط حياتنا، بل لنتقبل بَعضُنَا البعض كما نحن، بغض النظر عن مدى اختلاف وجهات النظر, ولنتفق على ما نحمل من إيجابيات وننميها بالاعتراف بها وذكرها حتى عمن لا نحب.

كما لا يجب أن ننشغل بتصنيف الآخر واعتبار كل ما يقوم به ويفكر به ويخطط له هو ضدنا ونستمر بتضييع أوقاتنا بكشف ما يسمى "بالمؤامرة"! لأن المؤامرة الحقيقة هي تأمرك على نفسك بتواطئك مع هواك على حساب مستقبلك!

ان لم تكن تعمل وتخطط فغيرك يعمل ويخطط ويتغير، فلماذا تعتبر نجاحه سقوط لك وفشله انتصار لك. لذلك أعتقد بأن كل عاجز عن العمل لا يملك الا اتهام الغير ونقدهم والانشغال بهم عن نفسه. يقضِ الناجح جُل وقته على تطوير نفسه والتنقل من إنجاز إلى آخر، بينما يقضي غيره كل أوقاتهم مجتمعين على إسقاطه ولا تخلو مجالسهم عن ذكره. والعجيب أنني لم أجالس أحدهم إلا ووجدته مظلوماً محسوداً تكاد له المكائد، ولم أقابل يوماً ما ذلك الظالم الذي ظلمهم جميعاً!

اللوم لا يفيد خاصةً إذا كان على غيرك، وليس حلاً إلا إذا كنت تلوم نفسك وتذكر "بل الانسان على نفسه بصيرة - ولو ألقى معاذيره". لذا لا تلقي باللوم كثيراً على غيرك، فمصيرك بيدك أنت بعد توفيق الله عز وجل، إن الله عدلٌ حكم، رزق كل شخص فينا بمواهب معينة وهبات مختلفة. دورنا هو أن نكتشفها بالعمل والجد والقراءة والبحث عن ذاتك من خلال تعرضك لتجارب منوعة تكتشف فيها نفسك وتجد فيها ضالتك مع السعي دائماً للتطوير والتحسين والتعلم المستمر.

لن تندم على شيء في حياتك مثل ندمك على عدم المحاولة، إذا حاولت وفشلت فلن تندم على فشلك بل ستفخر بمحاولتك ويكفيك شرف المحاولة بالإضافة إلى الخبرات التي مررت بها وان كان ظاهر الأمر سلبياً لديك إلا أنه يحمل في طياته الكثير من الإيجابية والفوائد التي ستتجلى لك لاحقاً. لذا لن يأتي اليوم الذي تلقي باللوم على نفسك لعدم المحاولة فقط!

يقول هنري ماتيس “العمل دواء كل شيء”. أبدأ من الآن، اعمل بادر ثابر واصل واصبر، لا تتوقف أبدا ولا تخدّر نفسك بإنتظار الفرصة وانتظار الظروف المناسبة لكي تبدأ، بل اصنع الفرصة واصنع الظروف واصنع الوقت. واعلم أنك لا تستطيع أن تعيد الماضي وتبدأ من الجديد كألعاب الفيديو لكن حتماً تستطيع البدء من الآن.

لا تقارن نفسك إلا بنفسك. ولا تنافس الا نفسك. انتصر على نفسك ونافس نفسك. لا معنى لإبهار الناس ما لم تبهر نفسك. كل الإنجازات والنجاحات تبدأ من تحدي النفس وتطويرها ومقارنتها بما كانت عليه بالأمس. وهذا أسمى معاني التحدي والمقارنة. والطريق لذلك طويل والمسير به متعب لكنه ممتع والنتيجة مبهرة!

الأحد، 20 مايو 2018

همسة

ننشغل ببهرجة الحياة كثيراً حتى نصل إلى مرحلة نهمل فيها مشاعرنا بل ننساها. نهتم بالشكل على المضمون وبالظاهر على الباطن وبالمادية على حساب المعنوية. أجزم بأنك تعتبر هذا تضخيماً وأن الموضوع بسيط وكل الأمور تسير على ما يرام. قف! فأنت مخطئ، لأنه إذا لم تعرف قيمة المشاعر لم تقدر قيمة ما كتب آنفاً ولن تفهم ما سيكتب لاحقاً!

كثيراً ما ندعي كثرة مشاغلنا وازدحام جداولنا، فتمر الأيام تلو الأيام ونبتعد فيها عمن نحب. لا نبتعد جسدياً عنهم بل نحن أقرب. إنما نصنع عزلة حديدية على مشاعرنا ونقويها يوماً بعد يوم. نشعر بين الفترة والأخرى بتأنيب الضمير بما بقي في هذا الضمير من حياة، لكننا نقضي على آخر رمق فيه بتعالينا وتكابرنا.

يجتاحنا الخجل الغير مبرر حينما يتعلق الأمر بمشاعرنا وريثما يتحول إلى مكابرة. نكابر في التصريح بحبنا لمن نحب . نشتاق لهم، نريد أن نسمع أصواتهم، نمتّع ناظرينا بوجودهم ونريد أن نقترب منهم أكثر، لكننا مرة أخرى نتعالى على كل هذه المشاعر ونضرب بها عرض الحائط. نتجاهل في التعبير عن مشاعرنا. ليس لأننا لا نريد بل لأننا لا نعرف. يقول جيمس إيرل: "من أسوأ ما يمكن أن يحدث في الحياة هو أن يكون في قلبك كلمات لا يستطيع لسانك أن يترجمها". ما نقوم به هو خيانة لأنفسنا ووأد لمشاعرنا! لذا نحن نساهم في إنشاء مجتمع بخيل مشاعر، يظن بأن البوح بالمشاعر ضعف والتعبير عن الحب نقص حتى لأقرب الناس لنا!

لا يتمثل البخل والكرم في الماديات فقط، بل قد نجود كثيراً على من نحب ومن لا نحب. لكن البخل الحقيقي بصورته الكاملة يتمثل في عدم البوح بمشاعرنا لمن نحب حتى ينمو مجتمعنا على أرض قاحلة جافة رغم خصوبتها وكثرة مواردها. وننسى أرثاً تاريخياً يحثنا على التعبير عن حبنا ومشاعرنا. فقد قال الحبيب ﷺ: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه". هذا الحرص من النبي ﷺ بأن لا ينتظر إلى الغد لكي يخبر صاحبه بهذا الحب، بل ليذهب له في الحال لمنزله ويعبر عن حبه ويفصح عن مشاعره ليس بالأمر السهل، وينم عن أهمية عظيمة لهذه المشاعر.

ألا يشكل هذا البوح أحد أهم أولوياتنا كمجتمع. إن الحياة بالحب والعيش له والموت عليه يبني مجتمع قوي البنية سوي الفكر لا تطرف فيه ولا ضعف، ويُعزز هذا كله بفك القيود عن مشاعرنا وإطلاق صراحها. الحب ليس كلمة عابرة فقط! الحب يترجم بمشاعر صادقة وأحاسيس معبرة! الحب قول وإذا ترجم أصبح فعل! واعلم أن كل شيء ينقص ببذله وعطائه إلا الحب والتعبير عنه، فهو يزداد! ولنعلم أن قلوبنا تتمدد وتتسع بالحب فلا نقلصها بغيره.

للحب معنى عظيم، وللتعبير عنه معنى أعمق. والتعبير عن هذا الحب يُعد عقداً بلا بنود وميثاقاً بلا قيود يسعى كلا الطرفين إلى ضمان استمراريته بالتضحية والبذل والعطاء. لذا فحبك لشخصٍ ما لا يعني كماله، بل يعني قبولك به كما هو. تتجاوز عن أخطائه وتقبل أعذاره وتقترب منه إذا ابتعد وتسأل عنه اذ جفاك!

ختاماً أقول:
ترى الكرم ما هو بكثر العطايا 
وترى البخل ما هو بكنز الدنانير
صدق المشاعر بين عوج الحنايا
وشلون تخرجها وتسعد بها الغير



الأحد، 13 مايو 2018

قبول دكتوراه

أكثر ما يقلق طلاب الدراسات العليا والمبتعثين هو الحصول على قبول دكتوراه (PhD)، خصوصاً الطلاب أصحاب التخصصّات الفلسفية والعلوم الإنسانية والتي يعتمد فيها القبول بشكل كبير على مقترح بحثي(Proposal)  يُقدم من الطالب. فمن خلال تجربتي وجدت هناك ثلاث طرق للحصول على القبول وهي قد لا تخفى على الكثير لكن سردتها هنا لعرض التجربة وللفائدة العامة:


الطريقة الأولى:
مراسلة الدكتور أو المشرف مباشرةً عن طريق إيميله الرسمي من خلال معرفة اهتماماته البحثية (Research Interests)  ومدى قربها من اهتماماتك كباحث عن قبول. ثم البدء في مراسلتهم * بسؤاله أولاً عن إذا ما كان لديه إمكانية ثم إرسال المقترح البحثي ثم مناقشته ثم التعديل عليه ثم عمل المقابلة الشخصية وبعدها التقديم على موقع الجامعة للحصول على قبول. وهذه الطريقة هي من أطول الطرق وغالباً ما تراسل مشرف تعرفه شخصياً أو سمعت عنه أو عن طريق توصية من زميل له أو من أحد طلابه أو خريجيه. وقد تأخذ هذه الطريقة من شهرين إلى ٦ أشهر وقد تطول أحياناً. *لدي بعض الإيميلات الجاهزة لمن أرادها فعليه مراسلتي.


الطريقة الثانية:
التقديم مباشرة على موقع الجامعة وإرفاق كافة المستندات المطلوبة وأهمها المقترح البحثي. وهنا قد تكون نسبة القبول تكون ضئيلة مقارنة بغيرها من الطرق، وتتفاوت مدة الحصول على القبول من جامعة إلى أخرى. ويتم اختيار المشرف لك حسب الإمكانية وإذا تعذّر، فستعتذر لك الجامعة بعدم قبولك. وكثيراً ما يعتذرون للباحث عن قبول لأسباب كثيرة لكن لا يذكرونها ويكتفون بعذر "عدم وجود مشرف".


الطريقة الثالثة:
هذه الطريقة من أفضلها وأسرعها، وهي مراسلة ما يسمى بـ:
Program Coordinator
PhD Admissions Tutor
Admissions Tutor
Research Director
Course leader
Program Leader
Graduate Research Coordinator (GRC)
Research Coordinator
Postgraduate Coursework Coordinator


إلى آخره من هذه المسميات. هؤلاء الأشخاص هم المسؤولون عن التنسيق وهم على دراية كاملة بأعضاء هيئة التدريس وعن تخصصاتهم وعن إمكانية توجيه الطلبة والباحثين عن قبول لهم. فهم في الأخير ملزمين بهذا التنسيق والمشرفين ملزمين نوعاً ما بالإشراف على عدد معين من الطلبة حيث أن الجامعة تدفع لهم رواتبهم وتتعامل في هذا الشأن كمعاملة "البزنس". كما أن المشرف غير ملزم بالرد على الطالب والباحث عن قبول دكتوراه إذا ما اتبع الطريقة الأولى، لكنه ملزم بالرد على مسؤول القبولات أو مسؤول البرنامج أو منسق القبولات داخل الجامعة. لذا أنصح بالبحث عن قبول عن طريق طالب يدرس عند مشرف حالياً أو تخرج من عنده، أو عن طريق الطريقة الثالثة التي ذكرتها وهي الأسرع والأفضل. كما أن هناك طريقتين أخرى لم أذكرها وذلك لأسباب منها عدم صلاحيتها واحترافيتها أو لأنها مجهدة ومكلفة وهي:


١-     المكاتب التجارية:
لا أنصح أبداً باللجوء لهذه المكاتب لأني أرى أن الابتعاث والدراسات العليا بشكل عام عبارة عن مجموعة من التجارب المتنوعة تمر بها وأولها تجربة الحصول على قبول بكل متاعبها وعقباتها إجراءاتها المعقدة أحياناً، إلا أن المستفيد الأول والأخير هو أنت من خلال تطوير مهارات عدة منها مهارات التواصل وطريقة المراسلة بالبريد الإلكتروني وتطوير اللغة الإنجليزية كذلك وغيرها. كما أن هذه المكاتب ستطلع على بياناتك الخاصة ووثائقك ولا تعلم ما سيحصل لها مستقبلاِ وأغلب هذه المكاتب عليها علامات استفهام كثيرة فيما يخص سياسة الخصوصية. ناهيك عن أن أغلب المشرفين لا يفضلون الطالب الذي يوكل هذه المهمة لغيره ويستغربون ذلك وقد تقع فجوة مستقبلية مع المشرف وأساسها أنه لم يكن هناك تواصل جيد منذ البداية.

٢‌-  الذهاب مباشرة للجامعات:
وهذه الطريقة مكلفة مالياً ومجهدة بدنياً إلا إذا كانت هذه الجامعات في محيط إقامتك. وأغلب الجامعات ستحيلك للتعامل معها إلكترونيا إذا أتيت لهم مباشرة. وقد يكون هناك فرص للقبول من خلال الالتقاء مباشرةً ببعض المشرفين وإعطاءهم انطباع جيد عنك. وهذا قد يختصر من خلال الحضور للمؤتمرات العلمية لتخصصك وهناك ستلتقي بعدد كبير منهم وتستطيع عرض نفسك عليهم وخصوصاً في أوقات الاستراحة. ويفضل وجود نسخ إلكترونية ونسخ ورقية لأهم الوثائق التي قد تحتاجها.




هذه بعض الخواطر البسيطة والسريعة من واقع تجربة وأرجو أن تفيدكم