الأحد، 19 يوليو 2020

رخصة اللاتردد

حينما وصلت للمملكة المتحدة في منتصف عام ٢٠١٣م، قررت شراء سيارة وعلمت حينها أنه يمكنني استخدام رخصة القيادة السعودية حيث يوجد بها ترجمة ولا داعي للتقديم على رخصة القيادة البريطانية أو الحصول على رخصة دولية. اشتريت سيارة مناسبة واستخدمت الرخصة السعودية طيلة فترة بقائي في المملكة المتحدة. لكن لا يكاد يخلو لقاء من لقاءات الطلبة والمبتعثين إلا ويتحدث به عن صعوبة اختبارات الرخصة سواءً النظرية أو العملية، ناهيك عن المذاكرة التي تسبقها ومن يقول بأنه يقضي أشهراً استعداداً للاختبار. مع مرور الوقت، زاد اقتناعي بعدم جدوى التقديم على هذه الرخصة المعقدة حيث يوجد لدي ما هو أهم بالإضافة إلى أن الرخصة السعودية كافية وتؤدي المطلوب.

 

انتقلت لأستراليا ووجدت النظام هنا أيضاً يسمح باستخدام الرخصة السعودية دون قيود أو شروط وبسهولة أكثر من بريطانيا. وكل ما هممت بالتقديم على الرخصة الأسترالية ينطفئ حماسي بمجرد استحضار تلك الليال الطوال من المذاكرة والدراسة على حد قولهم ناهيك عن الاختبارات المعقدة. مضى الوقت، وفي يوم من الأيام دعيت من حكومة الولاية للترجمة حيث أنني أعمل هنا كمترجم متعاون مع بعض الشركات. كانت الترجمة لسيدة عربية تقوم باختبار الرخصة الأسترالية! الرخصة الأسترالية!؟ نعم الرخصة الأسترالية! والمترجم الذي سيساعد تلك السيدة لا يحمل هذه الرخصة! أكاد أجزم بأنني اهتميت للاختبار أكثر منها. كيف لا وهي لا تتحدث الإنجليزية وسَتُقْدم على اختبار كهذا. حضرت الاختبار وكان عملياً، ولا أخفيكم بأنني صدمت بأنه لم يكن كما أتوقع وكما ضخم لي. وبعد أسبوع تقريباً شجعني أحد الزملاء على خوض الاختبار النظري وأخبرني بكل إجراءاته السهلة حيث سيخوضه هو أيضاً، وهنا قررت التقديم على الرخصة.

 

تقدمت للاختبار النظري ولم أتجاوزه من المرة الأولى رغم إنني أجبت عن أكثر الأسئلة لكن لخطأ بسيط اضطررت للقيام به مرة أخرى وتجاوزته هذه المرة بسرعة عالية وإجابات صحيحة أكثر. وكذلك حجزت للاختبار العملي وتجاوزته في المرة الثانية حيث كان هناك بعض الملاحظات في الاختبار الأول. كل هذه العملية بعد توفيق الله عز وجل لم تستغرق إلا سويعات من التحضير من مشاهدة بعض مقاطع الفيديو إلى أخذ بعض الاختبارات التجريبية من بعض المواقع المخصصة لذلك. كما أن المتقدم على الرخصة يحق له القيام بالاختبار النظري مجاناً وكل يوم إلى أن يتجاوزه على أن يكون مرة واحدة في اليوم فقط. وكذلك الاختبار العملي، يحق له القيام به مرة واحدة في كل اسبوع بمقابل مادي لكل اختبار.

 

استلمت الجمعة الماضية رخصة القيادة الأسترالية ولله الحمد. لم تكن سعادتي بالرخصة كوثيقة رسمية، فهي بالنهاية مجرد بطاقة يوجد ما يغني عنها. لكن فرحتي كانت أكبر بالتجربة والفرصة التي منحتها لنفسي. استحضرت خلال هذه التجربة أشخاصاَ غربيي الأطوار، يشعرونك من خلال حديثهم أن جُلَّ ما يقومون به وما قاموا به كان غاية في الصعوبة ولا يستطيع القيام به إلا قلة من الناس إشارةَ إلى أنفسهم. لو رفع أحدهم كوباً من الأرض لأخبرك كيف قام بهذا العمل بدايةً من العمليات العقلية المعقدة التي مر بها حينما عزم على رفع الكوب إلى الإشارات العصبية السريعة التي أرسلت ليده حينما قرر رفع الكوب وكيف كانت دقة زاوية يده والتي لم تتجاوز ٩٠ درجة، وكيف قام بمعرفة وزن الكوب وما بداخله. وصولاً إلى طريقة اختيار مكان آخر لوضعه فيه، وسيستغرق وقتاً طويلاً للحديث عن هذا العمل العظيم الذي قام به بأسلوب ساحر يجعلك تستمتع به ظاناً بأن ما قام به عملاً جباراً لا يستطيعه أي شخص. وما تكلم هؤلاء عن أمرٍ إلا ووجدته أقل مما يقولون!

 

هؤلاء الأشخاص لديهم ملكة حديث عجيبة تفوق إنجازاتهم وتضخم أفعالهم فيتوهم من يسمعهم أن هؤلاء أشخاص خارقون. هي مهارة وأقر بذلك، لكن يجب ألا ننخدع بهم أو نحرم أنفسنا من حق التجربة والمغامرة. ولهم أقول: إن أعظم نجاح هو ذلك النجاح المتعدي نفعه على المجتمع. وأعظم تحدي أن تنجح مع غيرك لا لوحدك. فدل غيرك على الطريق الصحيح ويسّر ولا تعسّر.

 

‏ لا ضير في أن نستفيد من تجارب الآخرين ونأنس بها، لا أن نُسقطها كما هي على أنفسنا أو تمنعنا من المحاولة والعمل. فالحالة الظرفية والزمانية والمكانية تختلف من شخص لآخر. كما أننا لسنا نسخاً من بعضنا البعض. فما ينجح مع غيرك قد لا ينجح معك والعكس صحيح، فقد خُلقنا مختلفين في الشخصيات والإمكانيات والمهارات. كن متفرداً، انهض من مكانك، مارس رياضةً، اقرأ كتاباً، دوّن أفكاراً، أنجز مهاماً، صل رحماً، بادر بطاعة، جرب ما كنت تخشاه وغامر فيما كنت تترد فيه، أشغل وقتك بمستقبلك وأيقظ نفسك لغدك. لا سكون في الحياة، فإما تقدم أو تأخر. ‏فلن تندم على ما فعلت أكثر من ندمك على ما لم تفعل. لذا جرب غامر حاول فلن يقوم بذلك أحد سواك! فلن تقود حياتك مالم تحصل على "رخصة اللاتردد"!

 

 

الأحد، 12 أبريل 2020

دهشة

دُعيت في ليلة واحدة فقط إلى ثلاث مناسبات على ثلاث "مفطحات". كان ذلك في مانشستر ثالث أكبر مدن بريطانيا حيث يقطنها ذلك الحين أكثر من خمسة آلاف سعودي غير أمثالهم من الأشقّاء الخليجين والإخوة العرب من بين طلبة ورجال أعمال وسيّاح إلى آخره. كانت علاقاتي هناك كثيرة جداً ومتشعبة إلى أبعد الحدود حيث لا أكاد أجد لحظةً واحدة بلا عمل. حضرت تلك المناسبات الثلاث استجابةً لدعوة أصحابها وتقديراً لهم ومكثت عند الأخير للعشاء. لا يهدأ هاتفي من كثرة الاتصالات ولا من سيل الرسائل حتى وصلت إلى مرحلةٍ أحدد فيها وقتاً للرد عليها بشكل شبه يومي. كانت تلك الأيام من أجمل التجارب التي خضتها وكونت من خلالها قاعدة علاقات كبيرة جداً وعميقة حيث جعلتها الغربة كذلك. تعلمت منها الكثير والكثير ومن أخطائي أكثر.

 تبادر لذهني قرابة انتهائي من دراسة درجة الماجستير ألا أعيد تجربة الدكتوراه في نفس المدينة والجامعة إن تيسر لي ذلك. لا لسوءٍ بهما بل لأن الابتعاث فرصة عمر ثمينة ولا أريد تكرار تجاربه في كل مراحله في نفس المكان والبيئة المحيطة به. تمنيت على الأقل ألا تكون الدكتوراه في نفس الجامعة. كما أنني أريد أيضاً أن أجد وقتاً لنفسي ولأوليات أكثر قد أهملتها. تحدثت مع بعض الأصدقاء المقربين عن هذه الفكرة فصعق أكثرهم. أنت، أنت خصوصاً لن تعيش بدون علاقاتك الاجتماعية. لا نصدق أن شخصاً لديه كل هذه العلاقات والتجارب والخبرات في مدينة كمانشستر ولديه بها هذه الفرص الكثيرة يغادر ويترك كل ذلك خلفه. وبالمناسبة، عرض علي في تلك الفترة أكثر من وظيفة وبعض الشراكات في مكاتب وشركات تُعنى بكل ما يخص السائح والزائر والطالب خارج وطنه لكن رفضتها لعدة أسباب لا يسع المجال لذكرها هنا.

حصلت على درجة الماجستير في بداية عام ٢٠١٦م وعدت للسعودية للعمل وكنت أبحث عن قبول دكتوراه خلال تلك الفترة. قبلت في جامعتين في بريطانيا وجامعة في ألمانيا لكنني لم أتمكن من الدراسة في تلك الجامعات لأسباب مختلفة. جاهدت في الحصول على قبولٍ آخر إلى أن يسر الله قبولاً كما أتمنى وزيادة. كان القبول في جامعة تعد ثالث أقدم جامعة في أستراليا ومن أفضل خمسة عشر جامعة فيها. لكن ليس هذا ما جعلني متحمساً لهذا القبول. 

تقع الجامعة في ولاية تسمانيا وهي أصغر ولايات أستراليا الست وهي جزيرة منعزلة عن بقية أستراليا حيث تبعد عن جنوب أستراليا قرابة ٤٠٠ كيلو متر بحراً. ولا أخفيكم سراً بأن جل من يهُم بالذهاب لهذي الولاية والجزيرة يصيبه بعض الإحباط غير تلك الكلمات المثبطة من البعض فور سماعهم باسم هذه الجزيرة. أما أنا فكانت ردة فعلي مختلفة تماماً وإيجابية إلى أبعد الحدود. فهذا ما أبحث عنه في الأصل. فقد قضيت العشر سنوات الأخيرة بين لندن ومانشستر والرياض. حيث الازدحام القاتل والساعات الضائعة يومياً بين وسائل النقل المختلفة من سيارات وقطارات وحافلات، ناهيك عن أوقات الانتظار الطويلة. إضافة إلى ذلك، كثرة العلاقات الاجتماعية والارتباطات اليومية المتعبة أحياناً. لذا لم أتردد يوماً في الذهاب لهذه الجامعة.

وصلت لهذه الولاية الساحرة في شهر أبريل من عام ٢٠١٨م. هذه الولاية التي تمتاز بطبيعتها البكر وتضاريسها المختلفة وهوائها الذي يعد الأنقى على وجه الأرض حيث تشكل أغلبية الجزيرة محميات طبيعية. تهت في سحر طبيعتها ووجدت أن جمالها يكمن في عزلتها. هذه العزلة التي جعلت من أسرارها عجائب تستهوي كل ذي فضولٍ كي يكتشفها، غير أن فضولي يبحث عن عزلةً أخرى تكاد تكون الأعجب والأغرب والأعمق. جمعتنا العزلة وتقاسمنا الصمت وتنفسنا الهدوء أنا وهذه الجزيرة التي لا تشبه أي مكانٍ في العالم بما تحتويه من كائنات ونباتات لا توجد إلا بها، وكذلك هي نفس الإنسان تمتاز بأسرارٍ وعجائب تجعله مختلفاً ومميزاً عن غيره إذا ما غاص في هذه النفس وسبر أعماقها، وهذا ما زاد توافقنا وانسجامنا.

بدأت رحلتي مع العزلة كقصة حب تبدأ بنظرة وجلة يشوبها الارتباك وتنتهي بأسيرٍ لتلك النظرة يبحث عن لذة اللقاء الأول. تغمرني الدهشة عندما أغوص في أغوار هذه النفس وأُسحر بعجائبها التي لا تنتهي. لا أكاد أصل لعمقٍ حتى أهوي إلى أعمق منه. تسبح روحي بين أسرابٍ من العجائب والأفكار والأسرار بتناغُمٍ متناهي الدقة، أليست العزلة مملكة الأفكار كما قيل. أقف مشدوهاً من هذه النفس العجيبة وأسجد لا شعورياً لصانعها في محراب من الدهشة يحفني الصمت البليغ والهدوء الصاخب. لا أزال غائصاُ في هذا العالم الأكبر بعدما كنت أظنه جرماً صغيراً. تكمن أسرار هذا العالم في خطورته. لكنني متفائلاً بأن العزلةَ غالباً لا يعقبها إلا كل خير. فاعتزال النبي محمد صلى الله عليه وسلم عقبه نبوة ورسالة واعتزال موسى ٤٠ يوماً عقبه الألواح التي أنزلت عليه. ولو لم يعقب العزلة إلا التعرف على النفس وتصحيح أخطائها لكفى. فنحن نهرب في أحيانٍ كثيرة من أنفسنا إلى الناس وإلى الأشياء لنشغل أنفسنا عن أنفسنا. تجدنا كثيراً ما نحترف النقد ولا نرى عيوباً إلا في غيرنا، وإذا ما أخطأنا وأغضبتنا تصرفاتنا فإننا نلقي اللوم على كل شيء حولنا إلا على أنفسنا. هذه كلها أعراض الهرب من أنفسنا بينما كان الأجدر بنا أن نهرب إليها. يقول جان بول سارتر: "إذا شعرت بالوحدة مع نفسك فأنت مع رفيق سوء"، لذا فأصلح رفيقك وأحسن صحبته.

ونحن في هذه الأيام وخصوصاً مع جائحة كورونا التي جعلتنا نألف مصطلح العزلة ولم نعشه أحوج ما نكون لخوض غمار هذه التجربة، لكننا نتوجس منها وبل نخشى الحديث عنها. وأعظم ما يمكن أن ننعزل عنه الآن هو هواتفنا وشبكات التواصل الاجتماعي التي تكاد تعمينا بوهج ألوانها الباهتة وتصمّنا بنغمات إشعاراتها المزعجة. ولعل في المقال الأخير المنشور بعنوان أجساد جوّالة ما يغني عن الإسهاب في هذا الموضوع. هذه العزلة عاشها مصطفى محمود - رحمه الله - قسراً في المستشفى وخرج منها شخصاً آخر حتى هدي لهذا القول: "إن الله هو الذي يعرف كيف يربي كل شخص ليظهر أفضل ما عنده، وأن البذرة تحتاج أن تُدفن حتى تنمو، وأن كل شيء أتى لحكمة ستعرفها لاحقاً" فبادر بتربية نفسك بالعزلة وأدفن بذورك في أعماق نفسك ولا تستعجل نموها فلله حكمة في كل شيء، حتى في التأخير!

الأحد، 29 مارس 2020

أجساد جوّالة

على مدار العامين الماضيين وفي مدينتنا الصغيرة بأصغر ولايات أستراليا، الولاية الأكثر عزلةً وجمالاً وسحراً، ألفت أكثر الأوجه سواءً في أفنية الجامعة أو قرب المدارس أو بالمحال التجارية ووسط المدينة. طبيعة الناس هنا أكثر ودٍ من غيرهم خصوصاً في بريطانيا حيث كانت تجربتي السابقة التي أمضيت فيها أكثر من ثلاث سنوات. يخيم علي أوجه الناس في بريطانيا التجهم ويسود التحفظ والتحرز على معظم العلاقات والتعاملات وتسوء حينما تكون مع أجنبي في أكثر الأحيان. لا شيء مميز ضمن هذه الأوجه التي ألفت رؤيتها في مدينتنا إلا سيدة استرعت انتباهي بإبتسامتها الدائمة وتلطفها العفوي الغير مصطنع وهدوئها اللافت. ويوم بعد الآخر تزداد تميزاً بين كل الأوجه المحيطة بها لتصبح علامة فارقة كشمسٍ مشرقة غيّبت كل ما حولها من النجوم والأنوار الصناعية.

علمت يقيناً أن خلف هذه الإبتسامة وخلف هذه الشخصية قصة مميزة جعلتها تطغى على كل من حولها. ترددت كثيراً في سؤالها عن سر هذه الإبتسامة وعن هذا التوهج المثير للأسئلة. وكيف لي أن أسألها دون أن أثير ريبةً أو شكاً لكنني جزمت أخيراً وسألتها. للأسف لم أصل لإجابة مقنعة بل هي أصلاً لم تلاحظ شيئاً مميزاً في حياتها غير ازدحام جدولها وكثرة انشغالها وقد استغربت من سؤالي هذا. مضت الأيام وتوطدت العلاقة وأصررت على الوصول إلى إجابةٍ مقنعة لتساؤلي. وذات مرة وبشكل عفوي كنا نتناقش عن شبكات التواصل الإجتماعي وعن كثرة استخدامها وقوة تأثيرها، وكانت المفاجأة! هذه السيدة لا تملك أي حساب في شبكات التواصل الاجتماعي نهائياً ولا تستخدم هذه الشبكات أبداً إلا حساباً واحداً على الفيس بوك خاص بالمكان الذي تعمل به، حيث تقوم بنشر بعض الإعلانات والدعايات وتتواصل مع العملاء فقط. هنا ازداد تساؤلي عن سر العلاقة بين عدم استخدام شبكات التواصل الإجتماعي وبين الراحة النفسية والهدوء، لا أجزم بأن العلاقة هنا علاقة سببية لكنها علاقة ارتباطية لا اعتباطية بلا شك.

هذه القصة شجعتني على إطالة عادة أقوم بها بين فترة وأخرى حيث أتوقف عن استخدام الجوال نهائياً ما عدا المكالمات الهاتفية لمدة ٢٤ ساعة. أعيد فيها ترتيب أولوياتي وتنظيم أوقاتي، وقد تحدثت عن هذه العادة في مقالة سابقة بعنوان: طمأنينة مبتعث [١]. لذلك قررت الأحد الماضي الموافق ٢٠٢٠/٣/٢٢م التوقف عن شبكات التواصل الإجتماعي لمدة أطول. فكانت من مساء الأحد إلى يوم الجمعة ٢٠٢٠/٣/٢٧م، أي قرابة خمسة أيام. كانت تجربة جميلة عجيبة. شعرت خلالها بفقدي لشيء كبير ترك فراغاً أكبر لمن يكن لدي سابقاً. أحسست بغرابة العزلة مع نفسي كغرابة اللحظات الأولى مع شخص لم التقِ به من قبل. لم أتوقف عن التقاط الجوال عدة مرات بدون سبب لتفقد شبكات التواصل الإجتماعي لكن عندما أتذكّر التحدي أتوقف. ثم ما ألبث قليلاً حتي تدفعني شراهة الإدمان لفتح الجوال لكنني أقاوم يوماً بعد يوم إلى أن وصل بي الأمر في اليوم قبل الأخير أن غادرت المنزل ناسياً أخذ هاتفي ولم أفتقده إلا متأخراً. وهذا على غير العادة، حيث كنت لا أخرج قبل أن آخذه معي. شعرت هذه الأيام بتركيز عالِ واستحضار أفضل، كان لدي وقت أكثر من ذي قبل وتبعه بالتالي إنجاز أكثر أيضاً. زاد لدي أيضاً الشعور بالرضى النفسي وغشيني هدوء وطمأنينة وسكينة لم أشعر بها منذ زمن، وهذا بدوره ولّد نشاطاً أكثر.

تسيطر شبكات التواصل الإجتماعي بإختلافها على حياتنا بشكل كبير. لا يكاد يفتح أحدنا إحدى عينيه إلا ويتفقد بالأخرى هاتفه. تصحبنا هواتفنا في في كل مكان، حتى إلى دورات المياه أحياناً أجلكم الله. لم نعد نستطيع التركيز على عملٍ واحد إلا وتشاركنا هواتفنا فيه. بل تشاركنا هواتفنا في كل شيء، كل شيء. حتي في القرارات التي نتخذها وفي المعلومات التي نستسقيها وفي الأماكن التي نذهب لها وفي نوع الطعام الذي نأكله وأكثر من ذلك بكثير سواءً كان ذلك بوعينا أو بغير وعينا! في آخر الإحصاءات وأحدثها لهذا العام ٢٠٢٠م عن استخدام التقنية في المملكة العربية السعودية فهناك أكثر من ٣٢.٢٣ مليون مستخدم للإنترنت من إجمالي عدد السكان البالغ ٣٤.٥٤ أي ما يعادل ٩٣٪ بزيادة ١٥٪ عن العام الماضي ٢٠١٩م. بينما يشكل مستخدمو شبكات التواصل الإجتماعي ٧٢٪ من سكان المملكة العربية السعودية بواقع ٢٥ مليون مستخدم نشط بزيادة ٨.٧٪ عن العام الماضي أيضاً ٢٠١٩م وبمعدل أكثر من ثلاث ساعات يومياً [٢]. أي أن الجميع يستخدمها وبشكل يومي إذا ما استثني الأطفال، واستبعد ذلك ما عدا الرضع! وفي إحصائية أخرى للهيئة العامة للإحصاء أن ٩٧.٣٤٪ من استخدام الإنترنت لمن هم فوق الخمسة عشر سنة مركزاً على استخدام شبكات التواصل الإجتماعي [٣]. دعك من هذه الإحصائيات وتفقد جوالك. ستصدم من عدد الساعات اليومية التي تقضيها على الجوال بما فيها شبكات التواصل الإجتماعي. إذا كنت مستخدماً للآيفون فاذهب إلى: الإعدادات - البطارية وانظر إلى استخدامك للأربعة والعشرين الساعة الماضية ولآخر ١٠ أيام. وهناك أظن طريقة مشابهة على الأجهزة الأخرى. شاهدت أرقام مخيفة لبعض الأصدقاء تصل لـ ١٠ ساعات يومياً على الجوال. أحدهم كان استخدامه للسناب شات فقط لآخر ١٠ أيام يفوق على ٥٠ ساعة، يعني أكثر من يومين متواصلة على برنامج واحد فقط غير البرامج الأخرى!

هذه الأزمة التي يمر بها العالم أجمع هي محنة يجب أن نحولها إلى منحة في شتى المجالات ونستفيد منها بقدر أكبر في معرفة مدى أهمية الهواتف الذكية وشبكات التواصل الإجتماعي في حياتنا وكيف نسخرها لنا وهل هي من ضمن أولوياتنا. لا شك أن لشبكات التواصل الاجتماعي فوائداً عظيمة وعديدة لا نحصيها، وكذلك سلبياتها. لذا فهي سلاح ذو حدين يلزمنا التعامل معه بحذر ويجب أن نقود نحن عملية استخدامه بحكمة وهدوء، ففي شبكات التواصل الإجتماعي لا خيار لنا غير أن نستخدمها أو تستخدمنا. نعم، تستخدمنا هي حينما تقتحم أوقاتنا ولقاءاتنا بل تزاحم أولوياتنا في الحياة من الالتزامات العائلية والعمل والعلاقات الإجتماعية إلى أماكن العبادة وقاعات الدراسة وأوقات الراحة. بل تتعدى إلى أكثر من ذلك بكثير لتحدث ضرراً على الصحة البدنية والنفسية والفكرية. فهل يحولنا الإفراط في استخدام "الجوالات" الذكية إلى أجساد جوّالة "غبية”؟!


[١] طمأنينة مبتعث:

[٢] We Are Social, & Hootsuite:
We Are Social, & Hootsuite. (2020). Digital 2020: Saudi Arabia. Retrieved from https://datareportal.com/reports/digital-2020-saudi-arabia


[٣] الهيئة العامة للإحصاء - المملكة العربية السعودية:
General Authority for Statistics. (2019). Bulletin of Individuals and Households’ ICT Access and Usage Survey. Retrieved from https://www.stats.gov.sa/en/952