الأحد، 23 مايو 2021

تخمة

أُدرك تماماً مدى إدماننا لشبكات التواصل الاجتماعي، وأننا نحن وهواتفنا توائم سيامية لا يمكن أن ننفصل عن بعضنا إلا بعمليات معقدة لها تبعاتها وتضحياتها وشيء من الخطورة. قُبيل رمضان الذي صادف بداية فيروس كورونا المستجد عام ٢٠٢٠م، قررت التوقف عن استخدام جميع شبكات التواصل الاجتماعي لمدة شهر رمضان كاملاً، لكن لظروف خارجة عن إرادتي ولارتباطي بمجموعات عملية ومهنية خصوصاً أن شبكات التواصل الاجتماعي ازدهرت في تلك السنة اضطررت لتأجيل هذا القرار إلى وقت غير معلوم. والجدير بالذكر أنه بتلك السنة زاد مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي ٥٩٠ مليون مستخدم جديد بالعالم ومنهم ٢.١ مليون مستخدم جديد لشبكات التواصل الاجتماعي بالسعودية.

 

كنت بين الفينة والأخرى أقوم بهذا الصيام عن شبكات التواصل الاجتماعي في عملية تنظيف وتطهير دورية، فأحياناً تكون ٢٤ ساعة في الأسبوع أو الشهر وأحياناً تصل إلى خمسة أيام أسبوعياً، لكن بعد هذا الصيام أعود بشراهة أكثر من ذي قبل! لذا قبل رمضان الفائت ٢٠٢١م، وبعد أن تحررت من عدة التزامات وأعمال، توقفت تماماً عن جميع شبكات التواصل الاجتماعي ماعدا اليوتيوب لمتابعة بعض البرامج وملخصات الأخبار حيث يصعب علينا متابعتها هنا لظروف الغربة ولا يوجد أي وسيلة أخرى.

 

بدأت هذا التحدي وزاد من صعوبته حينما لم أقم بإلغاء حساباتي في شبكات التواصل الاجتماعي ولم أقم أيضاً بحذف تطبيقاتها من على هاتفي، مع العلم بأنني قد ألغيت الإشعارات منذ سنوات. من السهل جداً أن تتوقف عن فعل شيء بعد التخلص منه لكن الأصعب أن يكون أمامك وتتوقف عن فعله. واستلهمت هذا التحدي من فكرة صيامنا لرمضان، لذا حاولت أن تكون التجربة بهذا الشهر الفضيل. كانت الأيام الأولى صعبة حيث كنت أفتح هذه التطبيقات لا شعورياً، لكن سرعان ما أتذكر وأقوم بإغلاقها قبل أن تفتح.

 

بعد مرور شهر كامل وإنجازي لهذا التحدي، استمر التحدي قرابة عشرة أيام إضافية، ولولا التزاماتي لما عدت لها. ذلك لأن الإيجابيات التي حصلت عليها فاقت توقعاتي وتغلبت على كل سلبيات البعد عن شبكات التواصل الاجتماعي. فالراحة النفسية والهدوء والتركيز والإنجاز والاستمتاع بتفاصيل الحياة والانسجام في المحيط القريب من عائلة زملاء وأصدقاء كانت نعماً تجاهلناها بمحض إرادتنا، فأصبحنا متصلين بكل ما هو بعيد عنا منفصلين عن كل ما هو قريب منا. تجدنا نجلس مع والدينا وإخواننا وأبنائنا وأصدقائنا لكننا نتواصل مع أشخاص يبعدون عنا مئات إن لم تكن آلاف الأميال. حضورنا في واقعنا جسدي فقط وحضورنا على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي افتراضي، حتى أصبنا بانفصام في تواصلنا وتفاعلنا، فزادت كمية ومدة التواصل وعدد من نتواصل معهم وانخفضت جودة ذلك التواصل والذي يعد حاجة ماسة في حياة الإنسان إلى أدنى مستوياته. فلم يعد لتواصلنا طعم ولا لون بقدر ما هو كثير ومستمر وفوق حاجتنا.

 

لا يمكن إنكار ثورة شبكات التواصل الاجتماعي وتأثيرها الكبير والممتد على كل مجال من مجالات الحياة من تأثير سياسي واقتصادي وفكري.. إلخ. فإذا غيرت شبكات التواصل الاجتماعي دول وسياسات وأطاحت برؤساء وزعماء، فكيف بتأثيرها على المستخدم البسيط وعلى عاداته، وأسلوب تفكيره، وصحته النفسية، والجسدية. ندرك جميعاً حجم هذه التأثيرات ونلوم أنفسنا كثيراً على هذا الإسراف الغير مبرر لكننا نادراً ما نقوم بخطوات عملية فنستسلم ونرضخ للأمر الواقع نضيف ملحاً على جروحنا بكثرة الندم على عدم القيام بذلك. كما أن هذه الشركات العملاقة لشبكات التواصل الاجتماعي لا تترك محفزاً ولا وسيلة جذب إلا واستخدمتها لكي تبقي مستخدميها على هذه الشبكات لأكثر وقت ممكن. كيف لا يكون ذلك والمستخدم هو المنتج الأساسي لهذه الشركات والتي تتاجر به ويضخ لها الملايين في كل دقيقة!

 

لذا تسببت لنا شبكات التواصل الاجتماعي بتخمة معلوماتية تشعرنا بجوع معرفي يزيد من سطحية تفكيرنا. تلهينا هذه الشبكات بالإغراء المعرفي الزائف، ويكفينا فقط مراجعات ما في المحفوظات والمفضلات على هذه الشبكات من روابط ومقالات ومحاضرات وغيرها وجدناها بشبكات التواصل الاجتماعي ووعدنا أنفسنا بالعودة لها والاستفادة منها وتخصيص وقت لها، لكنه إغراء معرفي زائف وعذر وهمي لاستمرارنا في استخدام هذه الشبكات إلا لمن جاهد نفسه وتحكم في وقته!

هناك تعليقان (2):

  1. عودآ حميدآ دكتور مشاري
    وربما من ايجابيات شبكات التواصل الاجتماعي مانجده من متعة وفائدة وفكرة ملهمة لمدوناتك الرائعة..
    تقبل مروري وكل عام وانت بخير💓

    ردحذف