الأحد، 17 يونيو 2018

وجد أُمه



في أحد ليالي رمضان ٢٠١٣ في مانشستر، أول رمضان أكون فيه بعيداً عن الأهل والوطن حيث بدأ الصيف للتو هنا. نصوم قرابة العشرين ساعة، نمسك قبل الساعة الثالثة فجراً ونفطر قرابة الساعة العاشرة مساءاً تقريباً.

الساعة الحادية عشر والنصف مساءاً في أحد مساجد مانشستر، المسجد مكتظٌ بالمصلين من كل الجنسيات والأعراق يجمعهم الإسلام على اختلاف مشاربهم لأداء صلاة العشاء والتراويح. حضر أحد المصلين وبصحبته ابنهُ الذي لم يتجاوز السنة والنصف للصلاة حيث أن والدته تصلي معنا أيضاً في مكان مخصص للنساء بنفس الجامع. ابتعد الابن عن أبيه كثيراً إلى أن وصل إلى سلم "درج" في وسط المسجد. بينما نحن نصلي حاول الطفل مراتٍ ومرات صعود السلم، ولكنه مع كل مره يسقط ويصرخ صراخاً يتألم له القلب. في المرة الرابعة سقط متألماً على رأسه وأشتد صراخه ثم صمت فجأة لوهلة! ذُهل لها كل من في المسجد من شدة السقوط ثم عاود البكاء مرة أخرى والكثير إن لم يكن الجميع يترقبون ماذا حصل للطفل.

انتهت إحدى ركعتي التراويح وبدأ الهرج والمرج في المسجد، وأكثر من يتحدث هم الذين كانوا بالقرب من الحدث! أي أمام الطفل مباشرةً حين سقوطه. تحدث أحدهم لائماً الإمام على الإطالة في الصلاة رغم سماعه لبكاء الطفل. بينما رد آخر من جنسية مختلفة غاضباً "بل إدارة المسجد تتحمل الخطأ على عدم إغلاقها الباب المؤدي إلى السلم وتركه مفتوحاً على مصراعيه". إلا أن أحدهم من جنسية أخرى أيضاً قام بالتهجم على أبيه الذي آتى مسرعاً من آخر المسجد على إهماله لابنه وتركه هائماً في المسجد بلا اهتمام.

الغريب في الأمر أن كل الأشخاص الثلاثة، المختلفين في اللغة والثقافة والمذهب كانوا على مرأى من معاناة الطفل وما يحدث له أمامهم، جميعهم لم يحركوا ساكناً أثناء سقوطه رغم قربهم منه، خصوصاً سقوطه الأخير على رأسه الذي كاد يكسر رقبته ويؤدي بحياته، بل تركوه يبكي ويتلوى أمامهم دون أن يكترثوا له. وحينما انتهت الصلاة قام كلٌ منهم بإلقاء اللوم على الآخر. كان على الإمام أن يوجز في صلاته! كان على من هم قريب من الطفل أن ينقذوه! كان على الأب أن يبحث عن ابنه! إلى آخره...

من المعلوم في بريطانيا أن الأنظمة شديدة جداً ولا يسمح للطفل بالبقاء لوحده في المنزل ولا النزول للشارع. لذا كان الوالدين في حيرة من أمرهم بعدم استطاعتهم تركه في المنزل وعدم وجود أقارب لهم وخوفهم عليه من النزول في الشارع وقت الصلاة. ولو نزل للشارع وقت الصلاة وتم الإبلاغ عنه لحوسب المسجد والوالدين خصوصاً أن الساعة كانت قرابة الحادي عشر والنصف مساءً. ناهيك عن الوالدين أصلاً غير ملزمان شرعاً بصلاة التراويح في هذا الظرف وهذا الوقت!

حينها أدركت أنه رغم اجتماعنا في هذا المسجد وفي مساجد أخرى أيضاً من لغات وثقافات وبلدان مختلفة، واتحادنا في صف واحد، إلا أن هناك فجوة. تتمثل هذه الفجوة فيما لدينا من قصور بمعرفة الأولويات أو ما يسمى بفقه الواقع وأيضاً عدم المبادرة في إيجاد الحلول لمشاكلنا الحالية وبالتالي عدم تحمل المسؤولية الكاملة تجاهها. والانشغال بإلقاء اللوم على الآخر والانشغال بالبحث عن المخطئ دون الأخذ بزمام المبادرة.

لو تقدم أحدهم لحمل هذا الطفل وإبعاده عن السلم لكان ذلك أولى من ركعتين في صلاة تراويح. لأن حفظ النفس والرحمة بالأطفال أولى بمراحل من كثير من العبادات، لأنني أظن بأن الدين أخلاق سلوكية وعبادات تعاملية لا أحكام فقهية وعبادات شعائرية فقط! وكم من حدث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أولى فيه الأطفال والضعفاء اهتماماً أكثر من العبادات الشعائرية وخصوصاً أركان الإسلام بما فيها الصلاة المفروضة. فقد كان الرسول صلَّ الله عليه وسلم يخفف من الصلاة إذا سمع صوت طفل في صلاةً مكتوبة فما بالُك بنافلة وليس مجرد بكاء طفل، بل تعرضه لخطر وكادت تزهق روحه. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلَّ الله عليه وسلم قال: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي مما أعلم من شدَّة وجد أُمه من بكائه".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق